رمضان جانا «٣»
التأمل بوابة الرحلة الروحية
التجربة الروحية رحلة لاستكشاف ذاتنا، أحلامنا، مخاوفنا، إحباطاتنا، ما نريد أن نكون عليه، علاقتنا بما ومن يحيطون بنا.. والتأمل هو البوابة التى علينا أن نقف على أعتابها كى نبدأ رحلتنا الروحية.
يساعدنا التأمل الذى هو تدريب الوعى أو العقل على التركيز بدلًا من ترك عقولنا تدور فى فلك المشتتات التى تحاصرنا، التركيز الحق يتجلى عندما لا تبحث الروح عن إجابات، أو كما يؤكد «كريشينا مورتى»: «عندما نحرر أنفسنا من الحاجة إلى جعل الأشياء تحدث بطريقنا، فإننا نسمح للدفق السماوى بأن يحملنا إلى حيث نحتاج أن نكون».
يظن كثيرون أن التأمل رفاهية لا تتاح لهم، فلا يعطون لأنفسهم الفرصة للتأمل، يقول الشاعر الأمريكى: روبرت فروست، فى قصيدته: «وقفة عند الغابة ذات مساء بارد»، على لسان مزارع: الغابة جميلة، ومظلمة، وعميقة، لكنّ لدى وعودًا علىّ أن أفى بها، وأميالًا أقطعها قبل أن أنام، وأميالًا أقطعها قبل أن أنام.
إذا كنا لا نستطيع أن ندخل الغابة أو نقف أمامها كى نتأملها، فكيف نمارس التأمل؟ لا يوجد قانون ينص على أن التأمل يجب أن يحدث بعيدًا فى الغابة، أو فى كهف جبلى، أو حتى فى غرفة هادئة، التأمل الواعى هو تقنية، وسيلة، يمكن أن نستخدمها وسط خيارات كثيرة قد لا تكون واضحة لنا ولا نعرف كيف نستثمر روتيننا اليومى فى ممارسة التأمل.
يمكن من خلال أداء بعض المجهود البدنى المكرر مثل غسل الأطباق، فغسل الأطباق بهدوء ودون عجلة يجعل العقل فى حالة ذهنية جاهزة للتأمل، وعملية التنظيف وتحويل الأطباق من حالة إلى أخرى تتماشى مع عملية تحويل الذهن من حالة الفوضى والالتصاق بكل المشتتات إلى حالة من الصفاء والوعى، بدمج الجهد العقلى مع الجسدى وفى وجود موسيقى هادئة.
يمكن أن نكسب وقتًا فى التأمل: أثناء السفر بالطائرة أو القطار أو الحافلة، أثناء قص الشعر لدى مصفف الشعر، أثناء انتظار موعد ما، أثناء ممارسة المشى أو الجرى، أثناء ممارستك مهام منزلية مثل دهان الحوائط أو جمع أوراق الشجر، أو عمل روتينى آخر.
ولكن لماذا نتأمل؟.. كيف يساعدنا التأمل فى رحلتنا الروحية؟.. الهدف من التأمل هو تبديل حالة الوعى، تغيير الحالة العقلية للإنسان، حيث نعطى فرصة للعقل أن يرتاح ويصبح أكثر هدوءًا، فتزداد قدرتنا على إدراك ما يحيط بنا، وزيادة قدرتنا على التبصّر واكتشاف صلتنا بالكون، وهذا يحتاج لسنوات من التأمل والعزلة، التى قد لا تكون متاحة لنا، لكن اقتناص ما هو متاح من اللحظات يمكن أن يحسّن صلتنا بخالقنا وبأنفسنا وبالأشخاص المحيطين بنا وبالكون من حولنا.
التأمل هو وسيلة آمنة ومأمونة لاستكشاف ما يعتمل فى الذهن، والتعرف على شخصيتنا وتتصادق معها بكل جوانبها: الخيّرة والسيئة، والتعرف على طبيعة العالم من حولنا، ونكتسب القدرة على الصبر على أنفسنا وعلى الآخرين.
يساعد التأمل على فهم الحواجز التى نقيمها حول أنفسنا، وهذه الحواجز بعضها مفيد وبعضها ضار ومعوق لاتصالك مع الآخرين، والتأمل وحده القادر على فحص هذه الحدود، وفهم أنفسنا وتفاعلاتها مع المنظومات الاجتماعية والاقتصادية فى حياتنا، ومن يستطيع التأمل يمكنه تفكيك الحواجز والقيود التى نضعها داخل عقلنا بين ذاتنا وبين العالم.
يساعدنا التأمل على إدراك المعنى أو المغزى من التجارب السلبية التى مررنا بها، وأن نرى الجانب الجيد من كل تجربة سيئة مرت بنا، لا بد من وجود تغيير فى الطريقة التى نرى بها الأمور لتتغير التجربة.
فى التأمل نتخلص من كل المؤثرات وعوامل التشويش الخارجية، وبعدها نتخلص من عوامل التشويش الداخلية، خطوة بخطوة، تنقية الذهن، تفريغه، إخلاؤه.. كى يكون مهيأ لتلقى إلهام، معرفة، بصيرة.
وقد تحتاج التجربة الروحية لمغادرة الأرض التى اعتدنا الإقامة بها، الترحال، الابتعاد عما هو معتاد ومألوف.
وللحديث بقية.