جابر بغدادي: لا يعلم روائح الأولياء إلا الأولياء ويجب النظر في أدب سيدنا يوسف
قال الداعية الإسلامي الشيخ جابر بغدادي، رئيس مؤسسة القبة الخضراء، ووكيل الطريقة الخلوتية الجودية، إنه لا يعلم روائح الأولياء إلا الأولياء، ولا يعرف أنوار الأولياء إلا الأولياء، مستشهدا بقصة سيدنا يوسف عليه السلام في قوله تعالى "وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ۖ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ".
وتساءل الشيخ جابر بغدادي، خلال أحد دروسه العلمية بمدينة بني سويف، هل وجدوا ريح يوسف مثله؟، مشيرا إلى أن سيدنا يوسف تعامل مع أخواته معاملة جميلة جدًا فى قوله لما سجد إخوته له "وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ".
وطالب بضرورة النظر في أدب سيدنا يوسف فى مواجهة من أساء إليه في قوله تعالى "يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ" وذلك فى مواجهة إساءات الزمان إليه، وفى مواجهة مشكلاته، وفي مواجهة كل ما طرأ عليه من مشكلات ومن همّ ومن كرب ومن ظلم ومن ضيق، وكيفية ذكر الناس والزمان ورب الزمان كل خير، وذلك في آية واحدة جمعت كل ألوان الفضل وألوان الأدب، وماهية اصطدام سيدنا يوسف بأنوار جلال الله فى كل حال، ورضى الله عنه في كل حال.
وتابع "بغدادي" قائلا: إن سيدنا يوسف، قال " وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ "، وذلك بأنه أقر بأن كل ما مر به فى حياتى ليس سجودكم هذا، ولكنه كان نتيجة لما رأيته من قبل "قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا "، مما يظهر محاسن الجمال فى قوله "وَقَدْ أَحْسَنَ بِي" فى السجن، وفى البئر، والإحسان المتواصل حتى بالبعد عن أبَويّه، مشيرا إلى أن الولى إذا انكشف له الغطاء رأى البلوى حلوى، وكل شيء أصبح حلوًا فى عينه "لما رأيت الله فى الكل فاعلًا رأيت جميع الكائنات ملاح".
وأوضح أنه بالرغم من أن ما مر به سيدنا يوسف قبل ذلك كان صعبًا، فلا شئ يدل على المحاسن، فلو تغيرت رؤية الولى للأحداث رأى البلوى حلوى، ورأى البلية عطية، وما حرمك إلّا ليرحمك وما ابتلاك إلا ليعافيك، وهذا كان منطوق وفلسفة ومنظور سيدنا يوسف للبلاء، وذلك في قول سيدنا يوسف " إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ"، وأنه لم يقل أدخلنى، وهذا هو الجمال فى قوله " إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ"، أى أنه هو الذى طلب الدخول إلى السجن، لكن الله هو من أخرجه وذلك في قوله تعالى " وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ " وأنه لم يقل أن الله فرق بينى وبينكم.
وأشار إلى أن العبد لا يذكر لربه سوء، ولكنه يذكر لربه كل الحسن، ونحن دائما لا نرى إلا الوقت القبيح لأفعال الوقت، ونرى التعب والضيق والنكد والضيم، ونرى بعينٍ واحدة، أما سيدنا يوسف يرى بكمال العينين فيقول " ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ"، وأنه لم يقل أن الله فرق بينى وبينكم، والأجمل من كل هذا أن قال " مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي "، ولكن الشيطان لم يوسوس له بشىء، ولقد كان وهم يرمونه فى البئر يقول " يا اخوتي يا بني يعقوب غفر الله لكم، أوصلكم الله كما قطعتمونى، أهانت عليكم أنفسكم أن يباع النبي عبدًا، فيقول "مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي".
وأكد "البغدادي" أن هذا هو الجمال والكمال، لأن "زليخة" ليست أكمل منه، "زليخة" الحب علمها الكمال، فجاءت فى آخر الأمر تقول " وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي"، ومعنى كلمة إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي كانت تقصد يوسف، فردها يوسف وقال "مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي"، مطالبا أن يضع الإنسان نفسه دائما محل إتهام، ودائما كنت أنت المخطئ أمام نفسك ودائمًا بادر صاحب الإساءه إليك بالإحسان إليه "مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي.."، على الرغم من أنه نبيّ ومعصوم.
وأضاف أن سيدنا يوسف حتى أنه معصوم من أن نفسه تحدثه بسوء إخوته وهو كله حُسن، هذا جمال العصمة، وهذه هي كمالات الصالحين، والجمال فى قوله "إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ" ، أى أنه حينما تم بيعه فى السوق كان بإرادته، والفراق بين أبيه وأمه كان بإرادته، ودخوله السجن كان بإرادته، وغيرة أخوته منه بإرادته، وذلك في قوله" إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ، فليفعل الله ما يريد، و"إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ" وايضا في قوله " رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ"، وأيضا في قوله " رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ " وكل ما فيه من فضل الله تعالى من خلال قوله " آتَيْتَنِي وَعَلَّمْتَنِي ومِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ " و"أَنْتَ وَلِيِّي".
وتابع قائلا: من الذى أخرجه من البئر هو الله، ومن الذى كان يؤانسه فى السبع سنين هو الله، ومن الذى حمله بكفه حينما تركوه فى البئر هو الله، ومن الذى كان له أنيس حينما تم بيعه فى السوق عبدٌ وهو نبي بن نبي هو الله، ومن الذي ساق له الأقدار وأخرجه من غيبات الجُب ليكون وزيرًا فى القصر هو الله.
وأشار إلى أن الله أخذ من سيدنا يوسف الأب ليذوق مذاق أنه له رب، فكان ذلك دليلا على عدم الخوف من الدنيا والآخرة بوجود الله تعالى، ولكن كان طلبه الوحيد في قوله "أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ" ، وهذا كمال الأدب، فى ذلك الوقت لم يعلوه من الصالحين أحد، وكان من المفترض أن كل الصالحين ساجدين له، لكن سيدنا يوسف رأى المشهد أوسع وأكمل وأبعد، فرأى الصالحين هم خير البشر سيدنا محمد ﷺ و أولو العزم من الرسل، والأنبياء الأعلى مقامًا وآل بيت حضرة النبي دائرة الصلاح الأكبر، كما أنه لما طلب بهذا لم يقل وأدخلنى فى الصالحين، أو أدخلنى بالصالحين، أو إجعلنى من الصالحين إنما قال "أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ"، ووصف نفسه بوصف العاجز عن الوصول الى كمال الرفق.