خلوات شيوخ الصوفية فى رمضان: عزلة وعبادة ودروس فى المساجد
حلّ شهر العبادة والذكر والنفحات والعطايا والبركات، شهر الخلوة مع الله، الذى يستغله عدد من شيوخ وعلماء الصوفية للدخول فى خلوات روحية، لمدة ٣٠ يومًا هى أيام شهر رمضان الكريم، يرجون ويأملون من خلالها الوصول إلى حالة من الاطمئنان والصفاء الروحانى والشفافية، وفقًا للاعتقاد الصوفى.
وينتظر شيوخ الصوفية من تلك الخلوات «انتظار العطايا الربانية»، التى تتنزل عليهم فى صورة إلهامات وكشوفات يستعينون بها على فهم جوهر الحياة والدين، ويترجمون إياها إلى تعاليم فى عقول وقلوب تلاميذهم ومريديهم وإخوانهم فى الطريق إلى الله، وكذلك شحن الروح بطاقة إيمانية تهدف للاستمرار فى السير والدعوة إلى الله بكل السبل والطرق.
ووفقًا لعلماء الصوفية، فإن الخلوة هى «انقطاع عن البشر فترة محددة، وترك الأعمال الدنيوية، كى يفرغ القلب من هموم الدنيا التى لا تنتهى، ويستريح الفكر من المشاغل اليومية التى لا تنقطع»، على أن تتضمن «ذكر الله بقلب حاضر خاشع، وتفكر فى ذات الله تعالى آناء الليل وأطراف النهار، ولا يتم ذلك إلا بإرشاد شيخ عارف بالله».
فى السطور التالية، تكشف «الدستور» عن تفاصيل خاصة عن أجواء خلوات شيوخ الصوفية فى رمضان، والبرامج اليومية التى يتبعونها فى تلك الخلوات، وغيرها من التفاصيل المهمة.
على جمعة: يتفرغ للقرآن والذكر ولا يتحدث مع أحد فى مسجد «فاضل»
كعادته فى كل رمضان، يبدأ الشيخ على جمعة، مفتى الجمهورية السابق، شيخ الطريقة الصديقية الشاذلية، خلوته فى مسجد «فاضل» بمدينة ٦ أكتوبر، ويتفرغ للذكر وقراءة القرآن.
ويقصد محبو على جمعة نفس المسجد، ليدخلوا خلواتهم الخاصة، بجوار الشيخ، منتظرين نفحاته، حيث يخرج أحيانًا ليقدم بعض الدروس الدينية.
وفى الأوساط الصوفية، تعد خلوة على جمعة من أشهر الخلوات، لأنها تجذب الكثير من المريدين، ويتزامن حلول شهر رمضان عادة بتوافد المئات من محبيه لمرافقته فى المسجد.
وقال مصدر فى الطريقة الصديقية الشاذلية إنه اعتاد الذهاب إلى مسجد «فاضل» فى كل رمضان، لمجاورة الإمام على جمعة، معتبرًا أن «كل من يأتى للمسجد يشعر بأجواء روحانية مختلفة، ويشعر بأنه أقرب إلى الله، كما أن الدروس التى يقدمها الشيخ تجذب العديد من المريدين».
وأضاف أن الشيخ على جمعة له طقوس خاصة جدًا فى شهر رمضان المبارك، منها ذكر الله الواحد الأحد، واصفًا إياه بأنه «من أكثر شيوخ الصوفية التزامًا بالخلوة، لأنه يتاجر مع الله ويريد الجنة».
وشرح أن الخلوة تساعد الإنسان على الارتقاء بنفسه، والوصول إلى راحة نفسية كبيرة، وتعد تجارة مع الله، لافتًا إلى أنها تشترط الابتعاد عن كل الأمور الدنيوية والانعزال تمامًا عن الناس، للتعبد لله تعالى، عن طريق قضاء الوقت فى الذكر وقراءة القرآن والدعاء لجميع المسلمين بصلاح الحال.
وواصل: «الشيخ على جمعة وكل المريدين يلتزمون بالخلوة سيرًا على نهج شيخهم محمد بن الصديق العمارى المغربى، المدفون فى مدينة طنجة بالمغرب، ويعتبرون شهر رمضان فرصة كبيرة للتقرب من الله».
وأوضح أن الشيخ «على» يقضى الليل كله فى الصلاة، ولا ينام إلا بعد صلاة الفجر، ثم يستيقظ ويبدأ يومه بتلاوة أوراد خاصة، كما أنه يختم القرآن خلال الشهر، ولا يقابل الناس إلا فى أضيق الحدود، ويحرص على تقديم بعض الدروس.
وقال المصدر إن الشيخ على جمعة لا يحب التحدث مع أحد عن تفاصيل خلوته أو أوراده الخاصة، لكن عادة يجتهد المريدون لرصد عادات الشيخ وتقليدها، مضيفًا: «الشيخ ملتزم بالخلوة منذ أخذ العهد من شيخه محمد بن الصديق الغمارى، الذى كان له الفضل فى نشأته وكونه من أهل الزهد والإيمان».
واختتم بقوله: «شيخ الطريقة الصديقية يعتبر الخلوة واجبًا مقدسًا، وقد يدخل الخلوة فى أوقات مختلفة من السنة، لكن خلوة شهر رمضان المبارك تكون مختلفة ومليئة بالروحانيات».
جابر بغدادى: مع المصحف حتى مطلع الفجر ويشارك فى إفطار الصائمين
الداعية جابر بغدادى، من شيوخ وعلماء التصوف الذين بزغ نجمهم خلال الفترة الأخيرة، وهو وكيل الطريقة الخلوتية الجودية ذات الانتشار الواسع فى محافظة بنى سويف، ويتخذ من مقر مؤسسته «القبة الخضراء» مكانًا لنشر أفكاره الدينية ومنهجه الصوفى بين المواطنين.
وقالت مصادر فى الطريقة الخلوتية الجودية ببنى سويف إن الشيخ جابر بغدادى حفظ القرآن فى سن العاشرة، وكان يرافق والده فى حلقات الذكر التى تقيمها الطريقة فى قرى ونجوع ومراكز المحافظة، وأحب المديح والمداحين، وتعلم التجويد ودرس السيرة النبوية، وحصل على نحو ٢١ إجازة فى علم التصوف والدعوة والإرشاد بالسند المتصل إلى النبى محمد، صلى الله عليه وسلم.
وأضافت أن الشيخ تخرج فى كلية الآداب بجامعة بنى سويف، وأتقن اللغتين الإنجليزية والفرنسية إلى جانب اللغة العربية، ودرس التاريخ الإسلامى والعلوم الشرعية على يد الشيخ الدكتور جودة عبدالعليم البكرى، من علماء الأزهر الشريف، أحد أقطاب الفكر الصوفى ببنى سويف.
وبدأ الرجل مسيرته الدعوية من محافظة بنى سويف، التى تمتلئ بمريدى الطريقة الجودية الخلوتية، وكان يلتقى المحبين فى مقر الطريقة، قبل أن يدشن «القبة الخضراء» مقر دعوته، واستطاع أن يجمع حوله الشباب من جميع الأطياف، وفقًا للمصادر.
وفيما يتعلق بطقوسه فى رمضان، قالت المصادر إن الداعية الصوفى يعيش حالة من الروحانيات والزهد والذكر وقراءة القرآن والعبادة طوال أيام شهر رمضان، الذى يعد بالنسبة له «شهر الله الأغر الذى يجب استغلاله أفضل استغلال فى العبادة والذكر والتقرب من المولى سبحانه وتعالى».
وبينت المصادر أن «بغدادى» يلتزم فى شهر رمضان بقضاء وقته فى الخلوة ولا يخرج منها إلا لسبب قهرى، موضحة أنه «بعد صلاة التراويح يقضى وقته فى قراءة القرآن حتى موعد صلاة الفجر، ثم يدخل فى حلقة الذكر التى تستمر حتى بزوغ شمس اليوم الجديد، ثم يمكث فى خلوته يناجى ربه سبحانه وتعالى».
واعتبرت أن «ذلك التجرد والالتزام يجعلان مريدى الشيخ وأحبابه يستلهمون من تقواه وانعزاله العبرة والمثل»، متابعة: «بغدادى ظهرت له الكثير من الكرامات والفيوضات التى جعلت أتباعه يتحيرون فى أمره»، وفقًا لتعبير المصادر.
وأضافت أن الشيخ يختم القرآن فى شهر رمضان أكثر من مرة، كما يشارك طوال أيام الشهر الكريم فى إفطار الصائمين، اتساقًا مع الدور المجتمعى الذى تقوم به مؤسسة «القبة الخضراء» التى يرأسها.
محمد مهنا: ينقطع عن التدريس فى الأزهر من أجل العبادة
أسفل مسجد «الإيمان» فى المقطم، ينقطع الدكتور محمد مهنا، رئيس مؤسسة «البيت المحمدى»، القيادى فى الطريقة المحمدية الشاذلية، لعبادة المولى عز وجل على طريقته الخاصة، خلال شهر رمضان المعظم.
وفى خلوة «البيت المحمدى»، ينقطع «مهنا» للعبادة والذكر والصلاة والصيام فقط، فيما يشبه الاعتكاف، وإن كان يختلف عنه فى كون الخلوة تتم بشكل منفرد، فى إحياء لسنة النبى، صلى الله عليه وسلم، الذى كان يدخل إلى خلوته فى غار حراء، فى بداية الرسالة.
ويدخل «مهنا» حالة من الهيام والاستمتاع بالعشق الإلهى خلال الشهر الكريم، الذى يعد شهر عبادة وذكر وتجارة مع المولى سبحانه وتعالى، ليناجى ربه ويذكره آناء الليل وأطراف النهار.
ويلتزم أتباع قطب «المحمدية الشاذلية» بالخلوة أيضًا فى منازلهم وبيوتهم، اقتداءً بشيخهم، سالكين نفس طريقه وسائرين على دربه، خلال رمضان، منقطعين للعبادة عن مشاغل وهموم الدنيا.
وقال محمد الشاذلى، عضو مؤسسة «البيت المحمدى»، التى يتزعمها الدكتور محمد مهنا، إن الشيخ الذى يلقبه مريدوه بـ«الولى الصالح» و«الرجل المبروك»، يلتزم بالخلوة طوال أيام شهر رمضان المعظم، منقطعًا حتى عن التدريس لطلبة العلم فى جامعة الأزهر.
وأضاف أن «مهنا» هو الوارث لعلوم شيخه الإمام الرائد محمد زكى الدين إبراهيم، لكونه من تلاميذه الذين حملوا أسراره، حتى رأى فيه البعض وريثًا ورائدًا للعشيرة، مجسدًا سمات الشيخ الذى يجب اتباعه والسير على منهجه والالتزام بتعاليمه وتوجيهاته.
وكشف عن أن بعض التلاميذ المقربين لـ«مهنا»، الذين يعرفون جيدًا مبادئ الخلوة وشروطها وفيوضاتها ونفحاتها، يصحبون شيخهم فى خلوته التى اعتاد الدخول فيها، مشيرًا إلى أن أهل التصوف معروفون بالالتزام بآداب الخلوة فى الشهر الكريم.
وبَيّن أن «الخلوة هروب من الناس إلى رب الناس فترة معينة، والهدف منها هو القرب من الله وغسل الروح والجسد من الذنوب والمعاصى، وتعد حالة روحانية إيمانية لا يعرفها سوى المخلصين من أهل التصوف المجتبين، الذين يعبدون الله حق عبادته».
ونوّه إلى أن خلوة الدكتور محمد مهنا لا تكون فى شهر رمضان فقط، بل فى جميع شهور السنة، لكن لرمضان وضعًا خاصًا، لأن جميع المسلمين ينقطعون للعبادة والذكر فيه، لذا تكون خلوته مختلفة عن غيرها، كما أن ثوابها عظيم، ما يجعل كثيرًا من أقطاب التصوف يلتزمون بها.