عبدالحليم حافظ.. حكاية مصرية
قد تكون أديبًا عظيمًا مثل عبدالقادر المازنى، أو فنانًا لا يُشق له غبار مثل الموسيقار القصبجى، لكن الفن وحده لا يؤهل المبدع لأن يكون علامة قومية، فلا بد من تضافر عوامل كثيرة شخصية وسياسية وفنية وتاريخية ليصبح الفنان رمزًا قوميًا إذا نطقت باسمه فكأنك قلت مصر، وإذا قلت مصر استدعيت اسمه، مثلما الحال مع سيد درويش، محمد عبدالوهاب، أم كلثوم، نجيب محفوظ، والعندليب عبدالحليم حافظ الذى حلّت ذكرى رحيله الخامسة والأربعين فى ٣٠ مارس الماضى.
وقد رأيت العندليب أول مرة عام ١٩٦٥، حين أجرت أختى عملية جراحية وهى فى الخامسة عشرة، ورحنا نزورها فى المستشفى، وسألها والدى إن كانت بحاجة إلى أى شىء، فتنهدت وقالت: «نفسى أشوف عبدالحليم»! وضحكنا جميعًا من طلبها، وكان العندليب أيامها فى عز مجده معشوق البنات.
لكن أبى لم يضحك بل استأذن منا بهدوء، وما لبث بعد نصف الساعة أن رجع ومعه عبدالحليم! وسرعان ما امتلأت الحجرة الصغيرة بكل ممرضات المستشفى وأطبائها ومرضى الحجرات المجاورة.
شاهدته بعد ذلك مرات عديدة فى منزل والدى، كانا يجلسان فى حجرة المكتب مغلقة عليهما نصف الساعة أو أكثر، ثم يخرج عبدالحليم يحيى الجميع بعينيه المتدفقتين بالمودة وزهو الفنان الرقيق بحضوره.
وذات مرة ساقنى الفضول لأن أسأل والدى: «عمّ تتحدثان؟»، فتنهد بحزن وقال: «يحب سعاد حسنى ويقول إنه لا يستطيع الارتباط بها لأنه مريض»، كان ذلك عام ١٩٧١، وبالفعل توفى العندليب بعد ذلك بست سنوات، وبقى فى القلب، وفى الأحلام بالحب، وفى فن لا يتكرر، وتحول إلى رمز قومى لا يغيب.. وقد تضافرت عوامل كثيرة شخصية وسياسية وفنية لتجعل العندليب ذلك الرمز، فى مقدمتها أنه جاء من قرى الفلاحين ضعيف البنية، يتيمًا بلا سند، وحتى صوته كان ضعيفًا بمعايير جمال الصوت حينذاك، ولذلك فتح الناس له قلوبهم على أنه من المظاليم مثلهم، ومن بينهم، وأحاطوه بتعاطف شعبى واسع، بل حتى وفاته كانت بسبب البلهارسيا، مرض الفلاحين الفقراء. من ناحية أخرى كان العندليب مطرب الثورة الذى لم يبرز أو يلمع قبل ذلك فى العهد الملكى، ثم إنه فى سنوات الثورة كان الصوت المعبّر عن الآمال الكبرى فى البناء والعدالة الاجتماعية، وفى التصدى للاستعمار بأغنيات مثل «إنذار»، و«ابنك يقولك يا بطل هاتلى انتصار» وغيرهما.. على المستوى الفنى كان عبد الحليم تجسيدًا لثورة فنية موسيقية، فقد أبطل الإطالة والتطريب والتلييل وتفكيك البناء الفنى للأغنية لصالح التكرار، وانتقل بالأغنية على يد كمال الطويل والموجى وحسين جنيد إلى قالبها المحكم القصير الذى يشبه الومضة.. واستطاع العندليب أن يهدم القاعدة القائلة إن جمال الصوت فى قوته، لصالح أن جمال الصوت فى حساسيته.. لكل تلك العوامل الشخصية والسياسية والفنية أصبح العندليب رمزًا قوميًا يسكن النفوس ولا يغادرها، علاوة على الطبيعة النادرة لصوته، فهو المطرب الوحيد الذى بلغ صفاء صوته أنك تسمعه فلا تكاد تسمعه، لأنك حين تنصت إليه تجد أنك منصت لروحك أنت، وأحلامك، كأنما كان كل دور العندليب أن يطلق الغناء المحبوس فى نفوسنا.. يصونك فى القلوب الفن والصوت نادر الجمال وتبقى حكاية مصرية.