بين الكرة والسياسة
أفكر فى أحوالنا السياسية وأنا أراقب نتائج ماتش مصر والسنغال وأرى أن الجمهور فى الحالتين يؤدى نفس الأداء.. جمهور الكرة مثل جمهور السياسة فى مصر يريد لبن العصفور.. يسعده أن يزايد على كل مدير فنى مثلما يسعده أن يزايد على كل رئيس أو وزير أو مسئول.. لديه آراء فى طرق اللعب، وخطط الدفاع، وتغييرات اللاعبين يقولها وهو جالس على المقهى و«مبسم» الشيشة فى فمه.. عنده وجهات نظر فى التنمية وسعر الصرف والوضع الاقتصادى وغلاء الأسعار، ويريد أن تصبح مصر من الدول الصناعية السبع دون أن يسأل نفسه منين وبكام؟ فى الكرة الناس ليست راضية عن طريقة لعب «كيروش»، رغم أن الرجل انتصر بالفعل.. يزايدون فى الكرة كما فى السياسة لأن الكلام ليس عليه جمرك.. نفس الأمر حدث مع مدرب آخر قدير هو «كوبر» صعد بنا إلى كأس العالم فطالبنا برحيله و«لبسنا أسود» لفترة معتبرة بعدها.. نحن نريد من المدرب أن يكون ساحرًا.. نحن نريد نتائج دون مقدمات.. نريد تغيير الواقع دون أن تكون لدينا معطيات التغيير.. نريد كرة برازيلية دون أن يكون لدينا لاعبون لديهم موهبة لعب هذا النوع من الكرة.. نعشق المزايدة على من يعمل وينجح ونجلس على المقهى لـ«نعدل» عليه.. فى السياسة كما فى الكرة.. نحن نريد تقدمًا اقتصاديًا دون أن يكون لدينا احترام للعلم ولا للبحث العلمى ولا للعمل ولا الصناعة وكأن التقدم الاقتصادى يتحقق بتعويذة سحرية يتلوها الرئيس أو المسئول وليس بحاصل جهد المجتمع والناس.. أدخل على صفحات للمستثمرين الصغار لكى أفهم أكثر.. يكتب أحدهم عن نصيحة ويسأل كيف أستثمر مدخراتى؟.. أكثر من ألف تعليق معظمها يقول له «استثمر مع الله»، أو «فوائد البنوك حرام» أو «أنفق المبلغ الذى معك فى الصدقات»! ما هذا العبث والجنون الجماعى؟ كيف تريد من الدولة أن ترعى نهضة صناعية فى مجتمع يؤمن بأن التعامل مع البنوك الذى هو أساس الاقتصاد الحديث حرام؟ من المجنون الذى أقنع الناس بهذا؟ ومن المجرم الذى ترك دعاة مشاهير يقنعون المصريين بهذا طوال عقود كاملة؟ كيف ننهض ونحن نعادى العلم؟ النهضة أن تكون لدينا صناعات نسهم بها فى اقتصاد العالم.. الصناعة الآن قائمة على البحث العلمى.. أنت تشترى جهازًا جديدًا لأن أحدًا استطاع أن يضيف له ميزة لم تكن موجودة فيه من قبل. هذه الميزة يتم الوصول إليها عن طريق البحث العلمى.. فهل لدينا بحث علمى يسمح بأن نصل لأى شىء؟ وكيف يكون لدينا بحث علمى ونحن نكره العلم ونحرمه ونروج لأكبر كم ممكن من الخرافات طوال الوقت؟ تعال نعود معًا إلى الكرة.. ما الذى يفعله أعظم مدير فنى فى العالم إذا كان ثلث الفريق الذى يلعب به مصابًا طوال الوقت أو يفتقد المهارات الأساسية للوجود فى الملعب؟.. تعال ننتقل إلى السياسة.. كيف يمكن للسياسى أن يقود مجتمعًا إلى النهضة وثلث الشعب يعانى من الأمية الكاملة؟ وهذا يعنى أنه يفتقر لأى مهارة يمكن أن تسهم فى نمو الناتج القومى.. لديك ثلاثون مليون شخص تحت خط الفقر.. وأنت كمسئول تفكر فى إطعامهم وتطوير حياتهم طوال الوقت، وهذه خطوة أولى قبل أن تفكر فى تعليمهم أو تطوير قدراتهم بشكل يجعلهم يسهمون معك فى زيادة الناتج القومى.. وللأسف فإن المشكلة ليست فى الثلث «المعطل» فقط، الذى يعانى من الأمية والفقر معًا.. ولكن فى تراجع تعليم الطبقة الوسطى المصرية وثقافتها نتيجة عقود من إهمال التعليم وتدهوره.. مؤخرًا أصدر موقع «هارفارد بيزنس ريفيو» تقريرًا عن أهم ثلاثين شابًا من العاملين فى تقنيات الذكاء الاصطناعى فى الوطن العربى وللأسف الشديد فإن عدد المصريين من بينهم كان ثلاثة فقط! رغم أن عدد سكان مصر هو ثلث عدد سكان الوطن العربى! ورغم أننا نحن الذين علمنا كثيرًا من شعوب الوطن العربى القراءة والكتابة من خلال مدرسينا وبعثاتنا التعليمية.. تراجع أكيد لكنه نتيجة تراكم إهمال على مدى عقود متتالية ومن الظلم والغباء أن تُحمِّل نتيجته للمسئول الحالى.. نفس الأمر فى الكرة.. من الغباء أن تحمل كيروش أو كوبر كل ما مرت به الكرة من ٢٠١١.. هو يتعامل مع الواقع حاليًا ويحقق أفضل نتائج ممكنة وفق معطيات هذا الواقع حاليًا.. والمدهش أنه يحقق نتائج جيدة بطريقته.. لكن ذلك لا يرضى أى شخص مزايد بطبعه أو محترف «الهبد» والإفتاء بغير علم أو الكلام باعتبار أن الكلام ليس عليه جمرك.. فيا عزيزى مشاهد الكرة أو مراقب السياسة.. لا تحاسب على النتائج قبل أن تفهم معطيات الواقع.. هذا إذا أردت أن تكون منصفًا وموضوعيًا وصاحب رأى محترم.. أما إذا أردت أن تتكلم لمجرد الكلام وتعلق لمجرد التعليق وتشارك لمجرد المشاركة.. تفضل.. براحتك.. فالكلام ليس عليه جمرك.