رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جرجس صفوت يكتب: حينما توفيت في العامين من عمري

الكاتب الصحفي جرجس
الكاتب الصحفي جرجس صفوت

الولد ده بيموت.. الدم بيتكسر في جسمه وبينزل في البول.. محتاج كيسين دم على الأقل.. أطلعوا بيه حالًا على مستشفى "........."، جاءت هذه الكلمات كصاعقة زيوس في أذان أبي وأمي، فقد كنت –ولازلت- وحيدهما.

 

البداية

بدأت قصتي –على الأغلب- مع فطامي، وتحديدًا منذ أن بدأت أتعلم المضغ والأكل، فآثرت أسرتي افتتاح تلك المرحلة الهامة من حياتي بطبق من "الفول"، الذي صُنع بطريقة تتناسب مع طفل في مثل تلك المرحلة، إلا أن الأمور لم تسير كما كان مُقدرًا لها، فالفول الذي رفض أن يُصيبني بالانتفاخات، كان عبارة عن "سُمًا قاتلًا"، في جسدي، إذ أني مُصاب بـ"أنيميا الفول".

 

وأنيميا الفول، لمن لا يعرفها، مرض يُعرف بأنه حساسية من كافة البقوليات، والتي بمجرد أن تدخل المعدة، تعمل على تكسير سلاسل الدم في جسد المُصاب، لينزل حينها في البول، ويتصفىَّ تمامًا، بحسب ما أفهمه عنها، فأنا أولًا وأخيرًا لا أملك من علوم الطب إلا أقل القليل.

 

الولد يحتضر

فوجئ أبي وأمي، بمشهد لعلهم لم يروه من قبل، طفلهم يتبول دمًا، فتطايرت التساؤلات أمام أعينهم، كمشاهد مقتطعة من فيلمًا سينيمائيًا، هل هُناك التهاب ما تسبب في ذلك؟، هل هناك جرحًا؟، وهل الالتهاب والجرح يتسببان في تلك الكمية الوفيرة؟ .. لم يكن هناك ملاذًا من زيارة الطبيب الذي قال بصوت عالِ بعد إجراء عدة تحاليل، طفلكم مُصاب بأنيميا الفول، الولد يحتضر.

 

معاناة دون جدوى

أسرع أبي وأمي، واستقلا تاكسي والذي كان مُلونًا حينئذ باللونين الأبيض والأسود، وأنطلقا إلى مستشفى "........"، وهُناك لم يكن سريرًا لـ"جرجس"، كما لم يكن هُناك مساحة للبحث عن أخرى، صُرف أول أكياس الدم، وكامن مُثلجًا، فوضعت والدتي الكيس على بطنها، لتُدفئه، عل الحرارة تُذيب تجمده، وتجعله أكثر سيولة وتدفقًا، ونظرًا لعدم توافر سرير فوضعتني والدتي على يد وامسكت كيس الدم، والذي لم يكفي واحتاجوا لآخر، على يديها لتقوم هي بدور الشماعة التي يُعلق عليها المحاليل.

ولك أن تتخيل طيلة الفترة التي استغرقها دخول الدماء لجسدي، مع الوضعية التي كانت عليها والدتي حينئذ، ولكن ياليت الأمور أجدت نفعًا، بل رفضت الدماء الاستقرار في جسدي النحيل، لتفر وتهرب في البول في مشهد أشبه بماسورة تُدخل السائل من أولها ليخرج من ناحية أخرى أثناء التبول.

يأس.. وأمل

يأس الأطباء من الأمر فقالوا لأبي في حالة هادئة الولد في نهاياته، لك أن تُرتب أمور جنازته، فآبىَّ أبي ذلك، مُنلطُا هو وأمي، كنيسة دير مارجرجس للراهبات القبطيات الأرثوذكس بمُجمع الأديان، وقاما بتطويقي بسلاسل البطل الروماني الذي تعذب بها أثناء اعتقاله على يد الأباطرة الرومان طيلة سبع سنوات، لم تفلح في إقناعه بإنكار الإيمان.

فيضان الدمع الذي انفجر من عيني أمي، كان له أن يلفت نظر إحدى الراهبات، التي تتكهن والدتي أنها كانت تماف يؤانا رئيسة الدير المُتنيحة، فاقتربت وأوصت مارجرجس في قلبها على جرجس الذي غادر المستشفى بنسبة هيموجلوبين في الدم 4%، لتتناقص بشكل تدريجي مع كل فترة تمر.

أمر الله ينفذ.. ولكن بالمعجزة

ولا أحد يعلم، ما الذي حدث، فما جرى كان داخل جسدي، الا أن آثاره ومفعوله اتضح على مسمع ومرآى الجميع، فالصبي الذي كان مُغمض العينين، وتُجهزه الملائكة للقاء ربه، فُتحت عيناه، ونزل ومشى وطلب "حاجة حلوة"، وأخذ يزن عليها، فعاد أبي إلى الطبيب الذي قال إن أمر الله قد نفذ، ليصرخ من هول المنظر، "ازاي الولد ده واقف على رجله .. دي أكيييد مُعجزة".

لما كتبت هذا المقال؟

كتبت مقالي هذا شكرًا لربي وسيدي يسوع المسيح، على سماحة بمد فترة في حياتي، لغرض لا أعلمه إلا أنني أعلن خضوعي الكامل له، مقدمًا في الوقت نفسه الشكر لقديسه وشهيده الأمير جورجيوس الروماني، الذي أشرف بحمل اسمه.

كما اخترت عيد الأم، كموعدًا لكتابته لأكشف عن أمور صنعها أمي وأبي قد لايعلمها الكثير ولن يعلمها الآخرون، دون كتابة تلك الأسطر.

فكل عام وهذه السيدة التي صنعت كثيرًا ولاتزال تصنع بخير.