المقاطعة الثالثة عشر
فيلم "المقاطعة الثالثة عشر في باريس" ينتصر للنساء دون سعار ودون صراخ أو بكاء، يخلو الفيلم من أية أصوات زاعقة أو خطابية في السيناريو ولا يوجد به ميلودراما أو تزيد، انتصر الفيلم للنساء وللإنسان الأمس واليوم وغدًا.
الأفلام التي أنتجتها فرنسا وأوروبا في عام ٢٠٢١ تنتصر حقًا للمرأة وحقًا تنتصر للنساء بل وتنتصر للإنسان، فالانتصار لا يعني أن تكون مسعورًا موتورًا، تصرخ وتبكي وتحطم.
بل أن تجرب نفسك ومن حولك وتجرب الحياة وتكتسب خبرات من أجل ذاتك قبل الآخرين ثم تلقن غيرك الدروس العملية لا الكلامية.
فتعلمهم أفعالك - لا ما تقوله لهم أو عنهم - فلست مشغولًا أو منشغلاً بهم ولست كذلك منشغلًا بالثأر منهم أو اتهامهم أو تحقيرهم، أنت فقط منشغل بنفسك وتسعى للوصول لذاتك أنت دون أن تتدخل في شأن الآخرين أو تريد الانتصار عليهم بتعريتهم أو الحط منهم لتعلو وتنتصر، لقد انتصرت النساء حتمًا في المقاطعة الـ١٣ في باريس انتصرن لأنفسهن وللحياة ولم يعادين أحدا انتصرن دون عداء وبعد أن شقت كل منهن حياتها بالطريقة المناسبة، طرح الفيلم ثلاثة نماذج لثلاث نساء فتاة صينية تعيش في باريس وطالبة فرنسية وعاملة جنس تتشابك حيواتهن ولا يتصارعن بل يمضين في طريقهن لاكتشاف الذات واختيار الطريق.
أحبت الفتاة الصينية (إيميلي) رجل أسمر كان أنانيًا وشديد الثقة والتيه بنفسه، تسلل إليها بنعومة الحية في البداية فوقعت (ايميلي) في غرامه ليضن هو عليها بالحب ويتعالى على مشاعره وعلى فكرة الاعتراف لها بهذا الحب أو حتى تصديقه فتركها وذهب لغيرها ثم غيرها وعاد لها في نهاية الفيلم بعد أن جربت هي الحياة بطريقتها الخاصة بعيدًا عنه، معه كانت تعاني من أزمة ثقة في نفسها وفي طريقة إدارتها للعلاقات العاطفية في حياتها لتقوم بتعويض ذلك بطريقتها الخاصة.
وبعد أن استطاعت بالفعل الاستغناء عنه وتجريب نفسها والغير عاد لها معترفًا بمشاعره تجاهها وهكذا يكون قد لقن درسًا قاسيًا علمته له الحياة دون أن توجه له الفتاة أي لوم أو هجاء فقد لقنته ايميلي درسًا حياتيًا قاسيًا بالتجاهل والصمت، وفعلت ذلك الطالبة الفرنسية (نورا) وأكملت له الدرس واكتشفت من خلال علاقتها به ذاتها وهويتها التي كانت ملتبسة بعد استغلال جنسي تعرضت له في مراهقتها من رجل من عائلتها فأصبحت (نورا) فتاة منطوية على نفسها وعندما قررت الخروج للحياة وإيجاد الصحبة وشيء من المرح البريء وانفتحت على المجتمع الجامعي قسى ذلك المجتمع عليها بلا مبرر وحاصرتها الظنون من زملائها القساة الذين عمدوا على تشويهها والنيل منها وتحطيمها لوجود شبه بينها وبين (عاملة جنس) تنتشر صورها على الانترنت فروج عنها الحمقى إنها فتاة ليل!
فتركت الجامعة وبدأت تعمل لتجد ذلك الشاب في طريقها وتقرب منها بنفس النعومة التي تسرب بها لحياة (ايميلي) في السابق وتنساق له ومعه في البداية لتكتشف بمرور الوقت زيف مشاعره وينكشف هو أيضًا أمام ذاته فكلتا الفتاتين لقنوه درس حياته ليعيد النظر فيها في المجمل بل وأعاد النظر في علاقته بشقيقته التي تعاني من التوحد وصار أقل تيهًا بذاته وأكثر قربًا منها وأكثر احترامًا للإناث فالأنثى التي تثمن نفسها دون غلو أو تصنع حتمًا يثمنها الأخر وهذا ما حدث مع (ايميلي) التي تودد لها الشاب من جديد أما (نورا) فقد اختارت لنفسها منحى آخر.
بعيدًا عن كل هذا واختارت مسارًا جديدًا مختلفًا لها في الحياة بعد إعادة اكتشاف نفسها وكان بالطبع لتجربة الاستغلال الجنسي وتنمر المجتمع الجامعي عليها وسطوة الجماعة التي دمرتها نفسيًا وعصبيًا أثرًا كبيرًا فتركت الجميع وراء ظهرها وانحازت لنفسها ولعاملة الجنس (شبيهتها) والتي رسخت في الفيلم لفكرة (المومس الفاضلة) والإنسانة، فنورا كانت فتاة بريئة وفاضلة ورغم ذلك تم إلصاق التهم بها، أما عاملة الجنس فكانت نعم تعمل في تلك المهنة ولكنها تظل إنسانة لديها حياة كاملة وطفولة وصبا لا يعرف عنها الجميع شيئًا.
والتقت الشبيهتان ليس فقط على مستوى الشكل بل المصير المشترك فكلتاهما عانتا القسوة والتنمر المجتمعي فكان لابد لهما من الاتحاد لتستمد كل واحدة القوة من الأخرى ولتواسي كل واحدة الأخرى وتكون هذه بالنسبة لتلك هي المرفأ والأمان والمحبة فتربت هذه على كتف الأخرى ويتعاونان على مواجهة قسوة الحياة والمضي معًا للحصول على شيء ما يبهجهما.
ووجدت كل سيدة من الثلاث ضالتها، ايميلي وجدته في الحب بعد أن تركت حبيبها للحياة وللتجربة وعاشت حياتها كما تريد، وكما ذهب عاد لها من جديد ولكن بنمط وأسلوب جديد أكثر حنوًا وأقل رعونة.
أما (نورا) فقد وجدت ضالتها مع (عاملة الجنس) والتي وجدت هي أيضًا من ينظر لها ويعاملها كإنسان دون تشييء ودون تسليع وبدون مقابل.
وهكذا تكون المقاطعة رقم ١٣ في باريس قد انتصرت للنساء فكن هن المرشد والمعلم بعد أن تعلمن هن أيضًا وخبرن الحياة، وبانتصار المقاطعة الثالثة عشر لنسائها الثلاث تكون تلك المقاطعة قد انتصرت أيضًا للحياة، فانتصار النساء جاء في الفيلم بمنطق ومن منطلق إنساني خالص.
يكشف ميزات وعيوب الجنسين ويعطي كل ذي حق حقه في تجربة الحياة والوصول للنتائج التي كانت من جنس العمل بطريقة يوتوبية قد تبدو مثالية وتتحدث عن ما يجب أن يكون بشكل فيه قدر كبير من التفاؤل في ظل قسوة الواقع المفرطة ولم لا فما كنا نظنه مستحيلًا قد يتحقق في لحظة وقد يرفع الغبن عن من ظلم وتعوضه الحياة بعد أن قست عليه فيكون مصير عاملة الجنس شيئًا من الدعة والرحمة والمحبة والاحترام ويكون مصير (نورا) الارتماء في أحضان ورفقة سيدة هي أفضل بالنسبة لها من الرجال القساة المستغلين الذين استغلوا واغتالوا براءتها في صباها ثم سخروا منها ودمروها وقضوا على مستقبلها الدراسي بالتنمر والإيذاء وترويج الشائعات بل وانتصر الفيلم لشقيقة البطل التي صارت أكثر فاعلية وثقة ووجدت ضالتها على المسرح من خلال الأداء التعبيري بعيدًا عن مرض التوحد والتلعثم فصارت فتاة منطلقة وفصيحة تجرؤ على مواجهة الجماهير وهو درسًا أخر في ضرورة قبول الأخر وعدم التنمر عليه.. ودرسًا يقول إن انتصار النساء ما هو إلا انتصار للحياة وللإنسان في المجمل في واقع قاسٍ ومنحط.