صديق العمر. أبوالعلا السلامونى يروى شهادته عن يسرى الجندى: كان مكتئبًا فى سنواته الأخيرة لمرض زوجته.. حتى دخل ذات مرة لينام فـ«نام»
كنت أتحسس كلماتى حين اتصلت به لأعزيه وأطلب منه أن يسمح لنا بالحصول على شهادته عن رحلته مع صديق عمره. توقعت أن يعتذر، لكنه كان فيما يبدو هو الأكثر احتياجًا للحديث عنه، فانساب الحديث متدفقًا دافئًا عامرًا بالحب والذكريات الطيبة التى جمعتهما. «فقدت اليوم أعز وأغلى الأصدقاء».. بهذه الكلمات بدأ الكاتب الكبير محمد أبوالعلا السلامونى رثاء صديق عمره ورفيق رحلته الكاتب المسرحى وكاتب الدراما البارز يسرى الجندى، الذى وافته المنية يوم ٩ مارس الماضى. وفى السطور التالية، يروى السلامونى سيرة مشتركة مع الجندى، من الضعف والقوة، والأحلام والتحديات، والحروب التى خاضاها سويًا وتجرعا مرارة هزائمها أحيانًا، وتشاركا نخب انتصاراتها فى أحيان أخرى.
تزاملنا أنا ويسرى الجندى فى المدرسة الابتدائية بدمياط، وكان «يسرى» توأمى، لا نفترق أبدًا، جمعنا حب المسرح والفن، وكان لأستاذنا، أستاذ اللغة العربية ماهر عبداللطيف، فضل كبير فى ذلك، حين طلب منا أن نؤدى مسرحية «إسلام عمر» لمسرح المدرسة، حيث أديت دور عمر بن الخطاب وأدى «يسرى» دور خباب ابن الأرت، وأعدنا الكَرّة بتقديم مسرحية جديدة تدور أحداثها حول تحقيق فى جريمة قتل، لكن هذه المرة طلب منا أن نرتجل أدوارنا.
لقد كانت اللحظة الأولى التى نختبر فيها قدرتنا على نظم عالم مسرحى متكامل، أحداث وشخصيات وحوار، وظهر وقتها الحس الكوميدى لدى يسرى الجندى فى أدائه دور المحقق، وبالمناسبة كان «يسرى» عذب الصوت حين يغنى أو حين يقرأ قرآنًا.
كنا ننتمى لأسر محدودة الموارد، لذا فقد سارعنا للالتحاق بمدرسة المعلمين حتى لا نرهق أهالينا بمصاريف تعليمنا فى الثانوية والجامعة، وعملنا مباشرة كمدرسين عقب تخرجنا فى ١٩٦٥، حيث عملت أنا بمدرسة «ابن خلدون» وعمل «يسرى» بمدرسة «السينانية»، وهى المدرسة ذاتها التى كانت تعمل فيها زوجته، حيث ارتبطا بقصة حب كبيرة فزواج، وظلت تنسخ له نسخًا من مسرحياته بخط يدها لفترة طويلة.
تعلمنا من فشل مسرحيتنا الأولى أن الفن للناس.. وربط القدر مسيرتنا فى أحداثنا الفارقة
عقب تخرجنا فى مدرسة المعلمين طلب منا أستاذنا ذاته أن نجهز مسرحية لتقديمها فى قصر ثقافة رأس البر، فأسسنا فريقًا أسميناه «المسرح التجريبى»، وقدمنا تراجيديا الشمس وصحراء الجليد، من تمثيل وتأليف وإخراج يسرى الجندى، وإدارة مسرحية محمد أبوالعلا السلامونى، وكانت تراجيديا تمثل على موسيقى دقات القدر لـ«بيتهوفن»، وفشلت جماهيريًا، وخرج من رآها من النقاد وهو يتساءل عن المجانين الذين أنتجوا مثل هذا العرض فى رأس البر، وهى مكان ترفيهى للمصيف.
كان ذلك صدمة ودرسًا قويًا لنا فى الوقت ذاته، إذ أدركنا أنا و«يسرى» حينها أننا أرضينا ذواتنا كمبدعين ولم ندرك متطلبات الجماهير، لقد كنا بعيدين عن الناس، والمسرح فى الأصل هو للناس، لذا فقد راجعنا آليات الكتابة، واتجهنا من وقتها للتراث، واهتم «يسرى» بمسرحة السير الشعبية، واهتممت أنا بالتراث والأحداث التاريخية.
ربط القدر مسيرتنا بعضنا بعضًا حتى فى أحداثنا الفارقة، فتقدمنا معًا لمسابقة مؤتمر الأدباء الشبان عام ١٩٦٩، أنا بمسرحية «سيف الله»، و«يسرى» بمسرحية «الشمس وصحراء الجليد»، وأقيم المؤتمر عقب ضرب مدرسة بحر البقر، فيما اعتبرناه شكلًا من المقاومة الثقافية، وكانت المفاجأة أننا فزنا مناصفة بالجائزة الثانية، وكان يترأس المؤتمر نجيب محفوظ، وينظمه معه ألفريد فرج، الذى عرض استضافتنا فى القاهرة، وكلفنا بمسرحة مسرحيات «بريشت».
استجاب «يسرى» بالفعل لتلك الدعوة، وانتقل إلى القاهرة فى أوائل السبعينيات، وانتدب إلى الثقافة الجماهيرية، وعمل على إعداد مسرحيتين لـ«بريشت»، هما «جحا والولد قُلة» عن مسرحية «دائرة التباشير القوقازية»، و«بغل البلدية» عن «السيد بونتيلا وتابعه مانتى»، ثم توالت نجاحاته، فقدم له عبدالرحمن الشافعى مسرحيتين «على الزيبق» و«الهلالية»، وأخرج له سمير العصفورى «عنتر» فى المسرح القومى.
كنت قد بقيت فى دمياط، واستكملت دراستى، فذاكرت الثانوية العامة منزلى، ثم انتسبت إلى كلية الآداب قسم فلسفة، فقد كانت الفلسفة أحد الروافد المهمة فى تكوينى المعرفى، أنا و«يسرى»، ربما لأنها وثيقة الصلة بالدراما، وكيف لا وصاحب أول نظرية فى الدراما هو الفيلسوف اليونانى أرسطو؟.
قرأنا كيرجارد وماركس وسارتر وكامى، ورواد الفلسفة، وأراد «يسرى» الصديق دعمى وأنا فى دمياط، فقدم مسرحيتى «سيف الله» بمسرح الطليعة، ودعانى للقدوم للقاهرة، وانتقلت بالفعل، وعملت مدرس فلسفة بمدرسة الأورمان، ولم تقدم المسرحية بسبب اعتراض رواد المسجد من المتأسلمين على اسم المسرحية، وطلب محمود الحدينى مدير مسرح الطليعة استبدالها بنص آخر، فكانت مسرحية «الثأر ورحلة العذاب» التى أخرجها عبدالرحيم الزرقانى.
بعدها طلب منّى «يسرى» نصًا لفرقة «السامر» التى كان يرأسها، فقدمت له «مآذن المحروسة» عن فرقة المحبظاتية ونابليون بونابرت، وأخرجها سعد أردش بوكالة الغورى، ثم أخرج لى فيما بعد «رجل القلعة» على المسرح القومى، قبل سنوات بعيدة من إخراج ناصر عبدالمنعم لها فى مسرح الغد.
انتقلت إلى إدارة المسرح بالثقافة الجماهيرية التى كان يديرها يسرى الجندى، لكنه انجذب للدراما التليفزيونية واعتذر عنها فتوليت إدارة المسرح خلفًا له، وكأننا كنا نسير تباعًا على الخط ذاته.
مثلما عملنا بالكتابة المسرحية، عملنا أيضًا بالدراما التليفزيونية، وأسهم يسرى الجندى بأعمال كثيرة تعد علامات فى تاريخ الدراما التليفزيونية، لكن ظل المسرح شغفى الأول، فقدمت أيضًا بعض الأعمال للتليفزيون، كان آخرها «سنوات الحب والملح» ٢٠١٠، وبعدها اختلفت المنظومة، ولم نستطع أنا أو «يسرى» مجاراة منظومة الإنتاج الجديدة فابتعدنا عن التليفزيون.
ظللت أنا و«يسرى» على اتصال دائم، فقد كنا متلازمين فى صداقة نادرة لا تحدث عادة بين اثنين أكفاء فى المهنة نفسها، لكننا كنا ندّين غير متنافسين إلا فى مشاعر الوفاء والإخلاص.
دخل «يسرى» فى السنوات الأخيرة فى حالة اكتئاب شديدة بسبب مرض زوجته، وكنا نتواصل تليفونيًا، ولم أكن راضيًا عن صوته، حتى أتى هذا اليوم الذى دخل فيه لينام.. فنام، وخسرنا رمزًا كبيرًا من رموز الفكر والثقافة المصرية بطابعها الشعبى.
ذهبت إلى منزله لأودعه وألقى عليه النظرة الأخيرة وأعاين ذكرياتنا وحكاياتنا فى وجهه، لم يكن «يسرى» صديقًا بل كان أخًا بكل ما تعنيه تلك الكلمة من معانٍ، وستظل عاطفة الأخوة باقية، فقد ظلت روحانا مرتبطتين طوال حياته وستظل على اتصالها رغم البُعد.
ولد الكاتب الكبير يسرى الجندى فى دمياط عام ١٩٤٢، ويُعد من أبرز كتاب المسرح والدراما فى جيل السبعينيات، ومن أعماله التى لا تنسى فى المسرح «عنترة» و«القضية ٨٨» و«الإسكافى ملكًا» و«اليهودى التائه»، وفى الدراما التليفزيونية «عبدالله النديم» و«نهاية العالم ليست غدًا» و«على الزيبق» و«قهوة المواردى» و«جمهورية زفتى» و«جحا المصرى» و«من أطلق الرصاص على هند علام؟»، وفى السينما «المغنواتى» و«سعد اليتيم» و«أيام الرعب».
وحصل «الجندى» على العديد من الجوائز من مصر والوطن العربى، ورحل عن عالمنا صبيحة يوم ٩ مارس ٢٠٢٢، عن عمر يناهز ٨٠ عامًا، وأعرب العديد من فنانى المسرح والتليفزيون والسينما عن حزنهم لفقدانه، واعتبروا رحيله خسارة فادحة للمسرح والدراما المصرية عمومًا.