الحشائش وصراع الأفيال
تتقلص بشدة فرص نجاة الحشائش واكتمال نموها فى الحياة البرية، حيث تقع فى أدنى السلسلة الغذائية، وبالتالى فإن الجميع يتغذى عليها، بداية من القوارض، حتى وحيد القرن، الذى يتجاوز وزنه عدة أطنان، تنطبق القاعدة السابقة على الأوضاع العادية التى يخيم فيها الهدوء والسكينة على جنبات الغابة، بينما تنعدم فرص نجاتها من الأساس إذا ما ضربت كوارث طبيعية كرياح عاتية تقتلعها من جذورها، أو زلازل تُسقط عليها الأشجار من علٍ، أو اشتد وطيس صراع بين الأفيال يسحقها سحقًا فى موضعها، ويحولها إلى عصارة تحت ضغط الوزن وسرعة الحركة وعشوائية الارتطام.
نفس هذه البيئة العدائية سيطرت على الاقتصاد العالمى، خلال السنوات الأربع الماضية، بدأت بصراع بين الأفيال فى عام ٢٠١٨، مع بداية حمىِّ وطيس الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، التى عرقلت النمو العالمى، وأثرت على الحشائش من الدول النامية فطالت صادراتها والواردات منها، فانخفضت مستويات التجارة العالمية، وبالتالى ضغطت على معدلات التوظيف، فرفعت معدلات الفقر فيها.
لم تكن هذه الحشائش قد استراحت، حتى ضُربت بزلزال هز كيانها، وقضى على نواتج التنمية فيها منذ مطلع القرن الحالى، بعدما سيطرت جائحة «كورونا» على جنبات الكوكب، فتعطل الاقتصاد، ودخل فى واحدة من أكبر موجات انكماشه، خلال السنوات المائة الماضية، ليُضغط على الحشائش حتى يكاد جميعها يفنى، ولا يتبقى منها شىء، حيث ارتفعت مستويات الدين لدى الدول النامية لأعلى معدلاتها التاريخية على الإطلاق، وتعاظمت مستويات الفقر، وارتفعت نسب الأمية، وسُجلت أعلى معدلات الوفاة منذ الحرب العالمية الثانية.
لم تكتف الأفيال بهذا الانسحاق، إذ ارتأى كل منها أنه لا وقت أفضل لتعزيز سيطرته وتحقيق مصالحه، فى ظل ما يعانيه الآخر من صعوبات عقب الكارثة العالمية، فهب جميعها ليقاتل بعضه بعضًا، ليجهز على ما تبقى من الحشائش، فالحرب الروسية الأوكرانية، رغم أنها تجرى على أراضٍ أوروبية، وأن أطرافها أساسًا هى الدول المتقدمة، فإن الضرر الحقيقى الأضخم، والمعاناة الأكبر ستطال الدول النامية، خصوصًا مع عشوائية الحرب، وعدم وجود ضابط أو وازع لأطرافها أو حتى إطار لها، إذ تحتكم الدول المتحاربة على أهم الموارد الطبيعية من طاقة وغذاء، وتُصدر المنتجات الصناعية التى تحتاجها الدول النامية.
وعلى الرغم من الأضرار حتمًا ستطال جانبى الحرب، فإنها لن تموت، فمع ضخامة الحجم، تزيد فرص البقاء حتى مع عمق الجرح، لكن الحشائش الدقيقة، ستنسحق حتمًا مع استمرار الضغط وتوالى الضربات التى توجهها الأفيال لبعضها، وليس من ضربة أكبر من قرار الولايات المتحدة، صباح أمس الأربعاء الموافق ٩ من مارس، بفرض عقوبات على صادرات النفط الروسية للولايات المتحدة، وليس من رد أكبر على الضربة من القرار الروسى بوقف صادرات المواد الأولية لمدة تسعة أشهر تنتهى بنهاية عام ٢٠٢٢.
القراران معًا رفعا أسعار العقود الآجلة للغاز إلى نحو ٦٠٠ دولار للبرميل المكافئ من النفط، وقفزت أسعار النفط ذاته إلى مستويات ١٣٠ دولارًا، وقت كتابة هذا المقال صباح الأربعاء، وستستمر فى الارتفاع حتى إننا قد نصل للمستويات الأعلى فى التاريخ عند حدود ٢٠٠ دولار للبرميل.
جنون مطبق يجتاح الغابة، لا سبيل للحشائش للنجاة منه إلا بالتكتل للنمو، أو تحقيق معدلات نمو فردية سريعة، تتحول من خلالها إلى أشجار مجدولة الجذع، ضاربة الجذور تستطيع تحمل ضغوط الأفيال وصدمات الطبيعة، وقد أخبرنا التاريخ بأنه مع كل انقسام وتحزّب للأفيال، وصراع بينها، تُخلق فرصة للحشائش للنمو، وليس أدل على ذلك من حقبة المعسكرات الشرقية والغربية، وتكتل عدم الانحياز، فسياسة المعسكرات تخلق تنافسًا على النفوذ، يُجزل معه لاحقًا العطاء، وتقدم فيه التكنولوجيا الممنوعة على الحشائش فى ظل وجود فصيل واحد مسيطر ومتحكم.
المهم أن نتحمل توالى الضربات، ونصمد تحت ضغط الوزن، حتى تهدأ الحرب، وتتضح ملامح المعسكرات، ونستغل لاحقًا حقبة الصراع، وننمى مصالحنا مع الطرفين دون انحياز لأحدهما، فربما نصيب هذه الفرصة، بعدما أهدرنا فرصة الحرب الباردة، فاصبروا، واستعدوا، وتعقلوا.