الوضع سيئ!
أنا من الذين يؤمنون بعبقرية الشعب المصرى.. لديه قدرة على فرز الصادق من الكذاب، الشريف من اللص، النزيه من خرب الذمة.. أؤمن أيضًا بأن الخط المستقيم هو أقصر طريق بين نقطتين، وأن الصراحة راحة.. وأن علينا- رجالًا ونساءً- أن نكون «رجالًا» بالمعنى الدارج للكلمة، وأن نتقبل حقائق الزمن والأقدار بروح إيجابية وبناءة وقادرة على الإبداع فى أحلك الظروف.. إننى دون عودة إلى الماضى البعيد أرى أننا منذ عشرين عامًا تقريبًا ندفع ثمن خطايا غربية وعالمية، لا دخل لنا بها سوى أننا ندفع الثمن بشكل متواصل ومتتالٍ.. على سبيل التقريب سأعتبر أن نقطة البداية هى تفجيرات الحادى عشر من سبتمبر، التى قام بها متطرفون وحلفاء سابقون للولايات المتحدة الأمريكية فى عقر دارها، بسبب ضعف كفاءة الإدارة الأمريكية وقتها قررت أن أفضل طريق لتلافى كراهية المتطرفين لها هو تمكينهم من حكم بلادهم! وإزاحة النظم السياسية المستقرة وذات الطابع المدنى وشبه المدنى فى الشرق الأوسط.. كانت البداية تدمير العراق عام ٢٠٠٣ وتدمير الجيش العراقى، رغم تأكد الجميع أنه لا علاقة له من قريب أو من بعيد لا بتفجيرات سبتمبر ولا بأسلحة الدمار الشامل، فى مصر تم تطبيق سيناريو آخر يستغل أخطاء نظام مبارك وشيخوخته وتراجع كفاءة مؤسسات الحكم، أدى ذلك لاحتجاجات واسعة حملت وصف ثورة، أدت هذه الصورة إلى تراجع اقتصادى كبير، هذا التراجع استمر مع الصراع السياسى فى البلاد وقيام المتطرفين بسرقة الثورة، وخروج الناس ضدهم فى ثورة أخرى فى ٣٠ يونيو، بعد ثورة يونيو وتولى الرئيس السيسى بدأت الدولة خطة ضخمة لتحديث البلاد والخروج من حالة الركود الاقتصادى بضخ استثمارات عامة كبيرة وعملاقة، فى نفس الوقت كانت الدولة تخوض حربًا حقيقية ضد الإرهابيين والدول التى تساندهم حتى عام ٢٠١٨ تقريبًا، خرجت مصر منتصرة سياسيًا وعمليًا من هذه الحرب القذرة، وأعلن الجميع خضوعهم، بدأ الناس يدركون أن ملامح الحياة فى مصر تتغير، وأننا نجونا من السيناريو الذى رسم لدول المنطقة بفضل كفاءة مؤسسات الدولة الوطنية ووجود قيادة وطنية استثنائية تستوعب تحديات اللحظة.. ما أن بدأنا فى مرحلة جنى الثمار حتى فوجئنا بوباء عالمى لا نعرف حتى الآن ملابسات ظهوره واختفائه وتسرب الفيروس المسبب له من أحد المختبرات فى مدينة صينية، هذا الوباء الذى جاءنا من الخارج كلفنا مئات المليارات لمعالجة آثاره المباشرة وربما آلاف المليارات لمواجهة آثاره غير المباشرة.. ما أن استوعبنا موجة التضخم الناتجة عن أزمة سلاسل التوريد التى تسبب فيها الوباء، حتى فوجئنا بحرب تشتعل فى منطقة لا يعرف معظمنا موقعها على الخريطة، لكن هذه الحرب للأسف تسببت فى موجة غلاء عالمى طالتنا فى مصر مثلما طالت العالم كله، وربما زاد منها جشع بعض التجار لدينا ومسارعتهم لرفع الأسعار قبل نفاد المخزون المستورد بالسعر القديم، علينا أن نستوعب أن هذه أزمة عالمية وألا نستمع للطميات لجان الإخوان الذين يقيم بعضهم فى قصور وشقق فاخرة فى أوروبا ويكتبون منشورات عن غلاء الأسعار، فى نفس الوقت على الإعلام أن يدرك حساسية المسألة ويحدد كل إعلامى لمن يوجه خطابه، فإذا كان يُحدث الفئة الميسورة التى تسرف فى عادات الطعام والشراب فعليه أن يعلن هذا، ويقول إننى لا أخاطب المصرى العادى ولكن الفئة التى تشترى الأكل المستورد بالكامل من الخارج مثلًا، وبشكل عام المصريون علاقتهم حساسة بالطعام، فهم يعتبرونه وسيلة ترفيه ومتعة ويحيون احتفالاتهم الدينية من خلال الطعام «الإسراء والمعراج ونصف شعبان ورمضان والأعياد» وكذلك يكثرون من الطعام فى الأفراح والمآتم أيضًا!! حيث تخرج صوانى الطعام الساخن من بيوت الجيران لمواساة المعزين وأهل الفقيد بأطباق اللحوم والدجاج والخضر كى ينسوا حزنهم على الفقيد!، النقطة الثانية أن الشريحة العظمى من المصريين تتقشف فى نفقات الطعام لأقصى درجة ممكنة بسبب ضيق الحال وكثرة الاستهلاك، وبالتالى فعلينا أن ننصح المصريين باختصار النفقات الثانوية أولًا مثل نفقات التدخين، وهى نفقات عالية للغاية، كذلك نفقات الجلوس على المقاهى التى هى من أكثر المشاريع التجارية إدرارًا للربح فى مصر، كذلك نفقات الاتصالات والهواتف المحمولة وباقات الإنترنت المتعددة، من العادات التى تضاعف من إحساس المصريين بغلاء الأسعار أيضًا حبهم شراء الطعام من خارج المنزل، واعتبار أطفال الطبقة الوسطى أن شراء الطعام من محال الأكل السريع الأمريكية هو أحد أشكال الرفاهية والمتعة، وتعويد الأهالى لهم على ذلك، أو لجوء بعض شباب الموظفين إلى شراء وجبة غذاء يومية فى العمل تستهلك معظم راتبه تقريبًا، فى حين أنها يمكن أن تكلفه النصف لو تدبر أمر تجهيزها فى المنزل، وهو أمر ليس مستحيلًا فى ظل انتشار برامج الطبخ ووصفاته المختلفة على شبكة الإنترنت، ينطبق نفس الأمر على مخاصمة كثير من المصريين عادة المشى أثناء الذهاب للعمل، واللجوء لركوب التوك توك أو التاكسى حتى أقرب محطة مترو، ولم تكن هذه العادات معروفة لدينا فى التسعينيات وكنا نسير عدة كيلومترات حتى أقرب محطة مترو أو أتوبيس، وكان هذا بمثابة رياضة يومية إجبارية، فضلًا عن أنه كان وسيلة توفير.. إننى لا أتوجه بنصائحى للمواطن بسيط الدخل، الذى أثق أنه ينفذ كل الأفكار الممكنة وغير الممكنة لتقليل النفقات، ولكن أتحدث مع أبناء الطبقة الوسطى المصرية من الشرائح الوسطى وشبه العليا التى يزحف عليها غول الأسعار مع ثبات المرتبات فيشعرها بالضيق، لقد قادنى صديق ابن لكاتب كبير راحل منذ سنوات إلى محل جزارة فى أحد الأحياء الراقية، تستطيع أن تقول إنه يبيع اللحم بسعر هو الأغلى بسبب موقعه ونوعية زبائنه، ولأننى من أسرة معظم أفرادها نباتيون فإننى كنت أشترى كميات قليلة من اللحم ولكن بسعر غالٍ جدًا.. فى الأسبوع الماضى قادنى قريب لى لأحد منافذ توزيع اللحوم، لا أعرف هل هو تابع للقوات المسلحة أم لوزارة التموين.. كانت اللحوم تباع بنصف الثمن، الذى أشترى به من جزار الحى الراقى، وكان هناك تنوع هائل فى أنواع اللحوم والدجاج والأسماك فضلًا عن معاملة ممتازة.. قلت لزوجتى ضاحكًا.. أظن أن جزار الحى الراقى يشترى اللحوم من هنا ويبيعها لنا بضعف الثمن بعد أن يضع عليها ختم المحل الخاص به، لا أقول إننا مخطئون فى طلب الطعام الجيد، ولكن أقول إن علينا أن ندرك أننا جميعًا ضحية لظرف عالمى لا علاقة لنا به، وأن علينا حكومة وشعبًا أن نتقشف وننتظر مرور الأزمة، وعزاؤنا الوحيد هو المثل المصرى البليغ «ياما دقت على الراس طبول».. وإلا قل لى ماذا يمكن أن نفعل غير ذلك؟؟.