مَن يحمينا من أن نصبح قتلة؟
فيما مضى كانت تلقى على قارعة الطريق أعقاب السجائر وقشر البرتقال وبعض الفضلات، أما اليوم فآدميون، والناس يعبرون بالموت غير عابئين، يعبرون فى استسلام مهين غير عابئين «أمام الباب- فولفانج بورشورت- ت: مجدى يوسف».
تنتمى هذه المسرحية إلى أدب الحرب، وهو هذا النوع من الكتابات الأدبية التى عالجت فى متنها آثار الحروب، وهذا النوع من الأدب ممتد فى الأدب المسرحى امتداد الحروب ذاتها فى التاريخ، بداية من النص الفرعونى الأقدم الذى تناول حرب حورس مع عمه ست، ومسرحيات يوربيديس عن حرب طروادة فى الدراما الإغريقية، ومرورًا بالنصوص المسرحية التى تناولت الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومنها نص «أمام الباب» لفولفانج بورشورت، فى عصرنا الحالى تضاعفت النصوص المسرحية التى تتناول الحروب وتضاعف الحروب ذاتها، فلا ننسى «صورة ماريا» لليديا شيرمان عن حرب البوسنة والهرسك، والمسرحيات العديدة التى تناولت ما يحدث فى العراق وسوريا، وها نحن على وشك حرب عالمية ثالثة.
والحرب وفقًا للتعريفات العسكرية هى نزاع مسلح بين أطراف لديها صراع فى الرغبات، ويكون الهدف منها إعادة تنظيم الجغرافيا السياسية. هذا التعريف المصكوك يظهر الحرب كعملية إجرائية مخفيًا وجهها القبيح المتعدد، والأثمان الفادحة التى تدفعها البشرية من دماء البشر والحيوانات والطيور ومن لحاء الأشجار، نستطيع حقًا أن نحصى كم حربًا خاضتها البشرية ولم تصل بنا إلى أى مكان سوى الجحيم، لكن هل نستطيع أن نحصى كم روحًا أزهقت، كم شجرة احترقت، كم امرأة رُملت وطفلًا تيتم، كم لغة انمحت وكم شعبًا اندثر؟، هل كل هذا الهراء من أجل إعادة توزيع الجغرافيا السياسية فقط، أم من أجل إعادة توزيع الثروات من أجل ملء جيوب تجار السلاح فى العالم، من أجل شهوة النفوذ، ورغم أن كل حرب خاضتها البشرية استطاعت أن تتقنع بأسباب وجيهة، إلا أنها جميعًا تقف خجلى أمام ما تخلفه من دمار.
«أمام الباب» ليست نصًا مسرحيًا عاديًا، بل هو صرخة ممتدة ضد الحرب، ضد القبح. الحروب التى تكشف عوراتنا وتظهر ضعفنا، فقد كتب الكاتب الألمانى فولفانج بورشورت مسرحيته وهو فى حمى الموت بعدما عاد من الحرب العالمية الثانية التى سحقت شبابه، عاد مصابًا بالتهاب كبدى ومات عقب عودته بعامين مخلفًا شاهدًا على ما عاناه جيله نتاج حرب زج بهم فيها بلا منطق ألا وهو دراما «أمام الباب» والنص هو أقرب للتداعى الحر ولروح الشعر منها للدراما، وقد ترجمه الدكتور مجدى يوسف بلغة شاعرية تفيض بالألم.. تدور أحداث المسرحية حول جندى يعود من الحرب، التى شحذوهم لها بحجة حماية القيم المقدسة، محطمًا، مهزوزًا نفسيًا، غريب الهيئة، غير قادر على النوم، محملًا بمسئولية الأرواح التى أزهقت.. ليجد كل الأبواب مغلقة أمامه فلا وطن ولا أسرة، ولا حبيبة، ولا عمل، بينما كل من زج بهم قابعون خلف أبوابهم مستدفئون .. يذهب إلى الكولونيل الذى حمّله مسئولية ٢٠ جنديًا فى مهمة قتال ودرجة الحرارة ٤٢ تحت الصفر، فمات منهم ١١ رجلًا.. فيجده فى منزله يأكل الكافيار مع أسرته، يقول له بيكمان: الآن أريد أن أنام، والآن أعيد إليك المسئولية، فلست أريدها.. ليست المسئولية مجرد كلمة.. أو معادلة كيميائية.. يتغير تبعًا لها اللحم البشرى ذو اللون الفاتح إلى تراب أسود قاتم، لا يستطيع المرء أن يحكم بالموت على الناس لمجرد كلمة فارغة. لا بد أن نذهب بمسئوليتنا إلى أى مكان.
«بيكمان» شاهد على ويلات الحروب ومآسيها، بيكمان وعائلته هو الضحية، هو الشاهد على جرائم القادة والزعماء حين يزجون بشعوبهم فى حروب مجانية ليست من أجل أرض ولا من أجل شرف، فقط حرب نفوذ ولتدوير اقتصاد السلاح.. لذا يصرخ بيكمان فى نهاية «أمام الباب» قائلًا:
«والقاتل بيكمان لم يعد يحتمل أن يكون القاتل والمقتول فى آن واحد، وهو يصرخ فى وجه العالم. من يحمينا من أن نصبح قتلة؟».