أيام دندرة.. بالقرب من أمل دنقل
لم أعش زمن الشاعر الكبير أمل محارب دنقل.. لكننى مثل كثيرين حفظت معظم ما كتب.. وتخيلت كل تفاصيل حياته من ذكريات زوجته الناقدة عبلة الروينى.. وعندما شاهدتها لأول مرة منذ أربعين سنة تقريبًا ووقتها كنت متدربًا بجريدة الأهالى لم أستطع حتى مجرد الاقتراب من الطرقة التى تمر بها.. كنت أشعر وأنا ابن الثامنة عشرة بأن أمل دنقل يمضى أمامها رافعًا رأسه وعمامته تغطى المكان ببياضها الفضاح.
طول العمر وأنا أتخيله محاربًا.. وأستغرب تلك الرفاهة والبساطة والهدوء الذى تحدثت به عبلة عنه وهى تكتب سيرتهما فى أوراق الغرفة ٨، نفس الأمر عندما حكى لى الأبنودى عنه وأنا أسألة عن أغنيتهما المفضلة التى غناها محمد قنديل «يا ناعسة».. وكنت أستغرب من تلك العذوبة فى اختيار الرجل، الذى لم أتصوره سوى فارس من أبناء الهلالية، وقد جاء إلى بلادنا فى الصعيد ليحررها من «غزو» الطامعين فى ثروات الأجداد.
هناك وفى حضرة هؤلاء الأجداد.. ونحن فى طريقنا إلى معبد دندرة.. رأيت مدخل قرية الشاعر الكبير، وأتعسنى أن هؤلاء المارين من جوار الحافلة بالآلاف فى طريقهم إلى المعبد مشيًا على الأقدام لخمسة عشر كيلومترًا كاملة لمشاهدة أول حفل غنائى يقام فى ساحة المعبد منذ سنوات بعيدة.. لا يعرفون ولا أعرف عددها.. أتعسنى أن الكثير منهم لا يعرفون أن بالقرب منهم ديار «أمل دنقل» المحارب الفارس المصرى العربى المسلم، الذى فهم الفولة ومضى دون أن يخبرنا بأنه «من يمسك بالعملة يملك بالوجهين والفقراء بين بين».. مضى المحارب وترك أحفاد «حتحور» ينتظرون عودة «إلهة الجمال والموسيقى والحب».. فى عالم لا يملك الفقراء فيه حتى مجرد «الانتظار» حتى الانتظار صار سلعة غالية على أولئك الذين عشقهم «أمل دنقل ووضعهم فيما بين القلب والرئتين.. «بين بين»..
هذه ليست مرثية لرجل ظلمناه كثيرًا.. وأتعبه المرض حيًا.. وأتعبته ذاكرتنا الخوَّانة سريعة النسيان بعد رحيله.
هى أقرب إلى حالة فرح.. بأن هؤلاء البسطاء الذين أوفدوا ذلك الرجل فى ستينيات القرن الماضى إلى القاهرة ومعه رفيقاه عبدالرحمن الأبنودى ويحيى الطاهر عبدالله ومن بعدهم بقليل عبدالرحيم منصور وبهاء طاهر.. حالة فرح بأن هؤلاء البسطاء جاءت إليهم القاهرة أخيرًا وتذكرتهم إكرامًا لمن أوفدوا.. وها هى تبحث عنهم وعن محاولة إسعادهم ولو لساعات قليلة فى أحضان معبد دندرة.
بهذا الفهم.. بتلك العاطفة.. أنظر بفرح شديد إلى مهرجان دندرة، الذى تبدأ فعالياته خلال ساعات قليلة بالقرب من أمل دنقل، وفى معية الأجداد أمام ساحة واحد من أهم معابد جنوب مصر.. ذلك المهرجان الذى بدأ منذ عامين- حيث كنا هناك- بالتعاون مع جامعة جنوب الوادى ولمدة سبعة أيام، إلا أن وباء الكورونا منع استمرار انعقاد دورات المهرجان، الذى يعود فيما يرحل الفيروس والكابوس الذى حاصرنا لمدة عامين.
منذ أسابيع قريبة.. اجتمع وزير السياحة والآثار د. خالد العنانى مع د. إيناس عبدالدايم، وزيرة الثقافة، وأظن قيادات من وزارة التنمية المحلية.. وكان أن تم التحضير لعدد من الفعاليات يتم تنفيذها فى ساحات المعابد والمناطق الأثرية بامتداد الجنوب المصرى؛ لتضىء من جديد مثلما أضاءت العالم كله بحضارتها من قبل.. ولشهور طويلة مقبلة.
كانت البداية من أسوان لحظة تعامد الشمس فى معبد «أبوسنبل».. وهو حدث أسطورى يتكرر مرتين فى العام.. ويأتى الآلاف من الشرق والغرب لمشاهدته.. ومع إصلاحات مهمة تجرى فى أسوان على جميع المستويات، وفى نفس الوقت الذى بدأت فيه بشائر حصاد وأول مواسم الخير مما زرعناه فى توشكى.. أقيمت الاحتفالية، والتى استمرت توابعها من فعاليات أخرى لأيام قبل أن ينطلق مبدعو مصر إلى الشمال للعمل والفرح لمدة أربعة أيام أخرى فى قنا هذه المرة.
قنا التى كانت منذ سنوات قليلة مجرد مصدر للأخبار المزعجة عن السلاح.. والأوجاع.. ها هى تتجمل لاستقبال الفنان هانى شاكر وريهام عبدالحليم ومجموعة أخرى من مطربى مصر والأوبرا.. ليس مهمًا من سيغنى، أو ماذا سيغنى بالقرب من أمل دنقل.. المهم أن تلك الطرق الوعرة أصبحت مزارًا يرتاده أهلنا العطشى للفن والثقافة.. والمهم أيضًا أن معرضًا كبيرًا للكتاب سوف يقام طيلة أيام المهرجان يوفر لأبناء الجنوب، الذين لا يستطيعون زيارة معرض القاهرة الدولى للكتاب ما يحتاجونه من كتب هيئة الكتاب ودار المعارف معًا.. وأتمنى لو أن كل أشعار أمل دنقل كانت هناك.. وأعتقد أنها ستكون موجودة مع كل الإصدارات الجديدة للأبنودى وبهاء طاهر وعبدالرحيم منصور، الذى طبعت الهيئة مؤخرًا أعماله الكاملة.
فكرة بحث مصر، مجددًا، عن قوتها الناعمة واستعادة دورها.. تأتى بالتزامن مع فكرة إعادة إضاءة معابدنا، منذ سنوات بسيطة، وفى هذا المكان تحديدًا كانت من الأوثان التى يجب هدمها وتكسيرها- وكل مناطقنا الأثرية الساحرة.. ليشاهدها أهلنا وأطفالنا الذين حرموا منذ زمن من تلك الزيارات، حتى ظننت أنهم فقدوا التواصل مع «ماضيهم» وها هم يستعيدون ذلك الوصل.. هذه الفكرة تحتاج إلى إضاءات موازية ليشاهدنا العالم البعيد، الذى لا يزال بعض بلدانه ينظر إلينا فى صعيد مصر باعتبارنا مجرد فلاحين أو بدو يركبون الجمال أو فى أحسن الأحوال «صعايدة بلكنة مهجنة ورقاب ملووحة مثل لغتهم».
أيام دندرة- بالقرب من أمل دنقل- لن تنتهى وأتمنى ألا تنتهى.. قبل أن يبدأ فعل ثقافى آخر.. على بعد ساعات.. فى الاتجاه شمالًا، حيث تقبع قصة جمع شتات أوزيريس عند أقدم معبد فى التاريخ.. معبد أبيدوس.. فى سوهاج.. حيث يطلق الشيخ ياسين التهامى، الخميس المقبل، ومن أمام ساحة المعبد الأهم ولأول مرة- لا أعرف إن كانت قد أقيمت احتفالات به منذ آلاف السنين. وقائع مهرجان جديد يحمل اسم «المدينة والمعبد» مستقبلًا على الحجار ومدحت صالح فى يومين تاليين واختيار التهامى إشارة ذكية ودلالة مهمة على تواصل ثقافتنا الفرعونية مع تراث المديح النبوى الذى نسعى إلى جمعه وتوثيقه.
ليالى دندرة وأبيدوس التى انطلقت فى أقصى صعيد مصر وتستمر لأيام مقبلة.. ليست مجرد وردة مهداة لروح أمل دنقل ورفاقه.. ولا هى استعادة لذاكرة مصر التى خلد أيامها بليغ حمدى وجابر أبوحسين وصلاح جاهين ورفاقهم، هى رسالة للعالم أجمع أننا «عائدون».. من هناك ليملك الفقراء كل شىء فى يوم ما نتمناه قريبًا.