أسلحة القرن الحادى والعشرين
تتصدر مشاهد الحرب فى الأراضى الأوكرانية أصوات القصف الروسى، وصور الدمار التى تخلفها الضربات المركزة لطائراته، ولقطات الكمائن التى ينفذها الجنود الأوكران، مستهدفين بها أرطال المركبات والمدرعات الهائمة فى مدنهم، المشاهد ذاتها التى اعتادها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، دون جديد يذكر يطغى على الصورة، أو يخطف العين.
لكن المتأمل سيدرك أننا أمام ثلاثة أنواع من الأسلحة توظف لأول مرة بهذا القدر، بين الدول المتقدمة وفى العلن، بما يشى بتغيرات جوهرية ستطال طبيعة الحروب فى المستقبل، ولعل أبرز هذه الأسلحة على الإطلاق، هو تطويع الشركات متعدية الجنسيات وفى القلب منها شركات التكنولوجيا، لخدمة المجهود الحربى، واستخدامها دروعًا لإعاقة مستويات تقدم العدو، وتشتيت جهوده.
وقد برز هذا السلاح بقوة فى ثلاثة مواقف أولها إيقاف «جوجل» خدماته الملاحية داخل الأراضى الأوكرانية، حتى لا تستفيد منها القوات الروسية المتقدمة صوب المدن المحلية، بما يبطئها، ويفقدها قدرًا وفيرًا من المعلومات التى تقدمها خدمة الخرائط الملاحية للشركة، ورغم أن روسيا تمتلك خدمة مشابهة تسمى Yandex Maps أُطلقت منذ العام ٢٠٠٤، فإنها ما زالت لا تقارن بخرائط «جوجل»، التى تجمع معلومات من مليارات أجهزة الهواتف النقالة فى جميع أنحاء العالم وتُسخّرها لتطوير خدماتها.
ورغم أنه يصعب الجزم بمدى تأثير إيقاف الخدمة فى الأراضى الأوكرانية، فإن الإيقاف ذاته يبقى نمطًا جديرًا بالملاحظة، خصوصًا عند ربطه بإجراءات كل من «فيسبوك» و«توتير» فى وقف بعض من خدماتهما فى روسيا، بغرض منع التأثير النفسى الذى تصدره الأجهزة الروسية عبرهما، ليس ذلك فحسب، بل يضاف لما سبق تدخل شركة ستار لينك لتوفير الإنترنت الفضائى، عبر تسخير بعض أقمارها الصناعية لخدمة أوكرانيا، وإرسال معدات استقبال إشاراته لأجهزة الدولة الأوكرانية، فى ظل تردى وأحيانًا انقطاع خدمة الإنترنت الأرضى والهوائى بفعل القوات الروسية.
أما السلاح الثانى فهو جر الكيانات الرياضية والثقافية إلى الحرب للضغط على الخصم، مثلما جرى استعمال كل من الاتحادين الأوروبى والدولى لكرة القدم، واللجنة الأوليمبية الدولية لتوقيع عقاب على روسيا واستهدافها، وليس ببعيد عن ذلك استبعاد لجنة التحكيم بمهرجان «كان» السينمائى الدولى جميع الأفلام الروسية المشاركة به لهذا الموسم، فيما كانت هذه المؤسسات فى أغلب الأحوال تربأ بنفسها عن النزاعات السياسية، بل العكس كانت تستخدم للتوفيق بين الشعوب، والحض على التسامح ونبذ الخلاف.
وأخيرًا فإن السلاح الأكثر فتكًا هو الهجمات السيبرانية، الذى بدأت تظهر مقدماته بعدما جرى استهداف مواقع عديدة من بينها موقع الكرملين ومجلس الدوما الروسيين، على الجانب الآخر مواقع أوكرانية عديدة، وربما قد يبدو من المبالغ وصف ما يحدث فى العالم الافتراضى بأنه سلاح وما يقوم به على أنه هجمات، إلا أن الدول المتحاربة لدى كل منها فعلًا أجهزة تخضع لوزارة الدفاع يشرف عليها ضباط فى الخدمة، تقوم بتأمين وتطوير قدرات ردع فى هذا المجال.
إذ تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية ما تسميه «القيادة الإلكترونية، United States Cyber Command»، بالإضافة إلى أن وزارة الدفاع لديها استراتيجية متكاملة للحرب الإلكترونية، تعمل على تطوير أعمدتها الخمسة، أما روسيا فلديها ثلاث وحدات كاملة للهجوم والدفاع الإلكترونى هى الوحدات: ٢٦١٦٥، ٧٤٤٥٥، ٥٤٧٧٧، تعمل جميعها تحت قيادة الاستخبارات الروسية العسكرية.
كذلك فإن آثار هذه الوحدات يفوق تأثير الوحدات القتالية التقليدية أو الاستراتيجية، لتصل إلى التدمير أو الإيقاف الكامل للبنية التحتية لدول، كما تبدى حينما استطاعت وحدات الحرب الإلكترونية الإيرانية فى عام ٢٠١٥، قطع الكهرباء لمدة ١٢ ساعة كاملة عن نصف تركيا أو ٤٤ من ٨١ مقاطعة، ونحو ٤٠ مليون شخص بمن فيهم المواطنون سكان إسطنبول وأنقرة، ما أعاد البلاد خلال تلك المدة إلى العصور الحجرية، وهى نتائج لم يكن يمكن تحقيقها حتى مع استخدام الأسلحة النووية، هذه النتائج ستزداد بشدة، مع قوة الأجهزة الغربية التى تخصص لها ميزانيات وإمكانيات علمية أضخم من تلك التى تمتلكها إيران أو تركيا.
حصيلة السابق إذن أننا نوشك على الولوج إلى حروب خلال القرن الجارى ستكون ذات أبعاد جديدة، وبأسلحة أحدث، ربما تبدو أكثر نعومة، ولا تشتمل على توجيهها قصفًا، أو تحليقًا لطائرات، ولا أدخنة اللهب التى تنبعث من الصواريخ، لكنها قد تنغص حياة الملايين أو تقتل الآلاف منهم، عن بُعد عبر أسلاك الكهرباء، وأثير الإنترنت.