رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن التنويريين وإليهم

بخصوص الجدل الدائر هذه الأيام، وتصور البعض أن صدم الناس فى معتقداتهم ومقدساتهم هو الطريق الصحيح للتنوير، يؤسفنى أن أقول لكم إن هؤلاء «البعض» مخطئون تمامًا، فالتنوير لا يكون بانتقاء الموضوعات الجدلية والشبهات، وإلقائها فى وجوه الناس، وتركهم يشعرون بأن مقدساتهم أهينت وأن دينهم فى خطر، وأنه ليس أمامهم سوى تصديق المتطرفين والسير وراءهم لحماية الدين والذود عنه، يؤسفنى أن أقول إن هذا الطريق طريق خاطئ تمامًا وخطر، ولا يسلكه سوى المغامرين، والمهرجين، والمنتفعين، وأقول إن الذين تصدوا لنقد التراث فى تاريخ مصر كانوا فئتين لا فئة واحدة، الباحثون، والمهرجون، أما الباحثون فهم أساتذة الجامعة الذين استغرقوا فى بحوث جادة وعميقة قادتهم لآراء علمية جرت على بعضهم المشاكل، وعلى رأس هؤلاء عميد الأدب العربى طه حسين الذى حصل على شهادتى دكتوراه لا شهادة واحدة، وضمّن آراءه فى كتاب جامعى أكاديمى ولم يقلها على المقاهى وللعوام، ومنهم أيضًا الدكتور منصور فهمى الذى حصل على رسالته للدكتوراه عن أوضاع المرأة فى الإسلام من السوربون، ووصل إلى نتائج علمية، ومنهم د. محمد أحمد خلف الله الذى حصل على رسالة دكتوراه فى الأدب حول «الفن القصصى فى القرآن»، أما أشهرهم فى العصر الحديث فهو د. نصر حامد أبوزيد، وهو باحث ومفكر كبير، أجرى أبحاثًا أكاديمية بهدف إفادة العلم، ولولا أن أستاذًا متطرفًا كان يرأس لجنة الترقيات التى قدم لها أبحاثه، وشى به وأبلغ عنه لما عرف الرأى العام شيئًا ولبقيت أبحاثه فى إطار الجامعة، يتلقاها المؤهلون لفهمها والمختصون بدراستها، أما الفريق الثانى من الذين تناولوا قضايا التراث فأسميهم فريق «المغامرين» أو «الإعلاميين» أو «المهرجين»، وهم يشتركون جميعًا فى أن «التنوير» تحول لديهم لمهنة لا رسالة، وأنه در لهم مكاسب مالية هائلة، وتمويلًا سخيًا، نقل بعضهم من حال الفقر والإملاق إلى سكنى القصور والفنادق والسيارات الفارهة، وهم فى الغالب يقدمون قشورًا يكتبها لهم باحثون مساعدون، يستقون مادتها من شبكة الإنترنت، حيث يستطيع أى مغامر أن يدخل على موقع جوجل ليكتب كلمة «شبهات حول..» لتظهر له عشرات العناوين حول مواضع الشبهة وردود العلماء عليها.. لكن صاحبنا يأخذ موضع الشبهة ليلقيه فى وجوه الناس.. دون أن يقول لهم ردود العلماء عليه، وهو عوار مهنى وحماقة فكرية، سببها أن صاحبها صاحب غرض، وأنه غير متجرد، ولا هادف للعلم، بقدر ما يهدف إلى إثارة ضجة يعقبها سيل من المنافع والشهرة الكاذبة، وهو ما يذكرنى بقصة أعرابى ذهب للحرم وفوجئ به الناس يتبول فى بئر زمزم، فأوسعوه ضربًا، لكن أحد الحكماء أنقذه من بين أيديهم، وسأله أريد أن أعرف ما دافعك لفعل هذه الفعلة الشائنة، فأجابه «أردت أن أذكر ولو باللعن»! والمعنى أن هذا الرجل الجاهل أدرك أنه لا يستطيع أن يدخل التاريخ سوى بصدمة الناس فى أحد مقدساتهم وهو بئر زمزم.. وما أقصد أن أقوله بعيدًا عن الإساءة لأى طرف إننا يجب أن نحترم مقدسات الناس، وإن الإصلاح الدينى عملية متدرجة وجدلية تستغرق سنوات طويلة ويساعد عليها ارتفاع مستوى التعليم، وتنمية نزعة التفكير النقدى فى المناهج، وفتح باب الاجتهاد لعلماء الدين المؤهلين «فتوى الكدّ والسِّعاية نموذجًا»، وأقول إن المطالبات بإصلاح الخطاب الدينى أحدثت أثرًا إيجابيًا، فالأزهر فى ٢٠٢٢ غير الأزهر فى ٢٠١٥، وهذا ما أقصده بالإصلاح المتدرج والبطىء بعض الشىء، أما الرد على التطرف الدينى بتطرف فى اتجاه آخر فلا يؤدى لنتيجة إيجابية، نحن نريد دولة مدنية، تساوى بين مواطنيها، ويحكمها القانون، ويخلو المجال العام فيها من أى ضغط باسم الدين على سلوك الناس أو مظاهرهم، أو فرصهم فى العمل، فيما عدا ذلك فكل واحد حر فى فهمه للدين، ومن يريد أن يأخذ برأى الفقيه الفلانى هو حر، ومن يريد أن يعتقد فى صحة الواقعة الفلانية هو حر، ما دام لا يفرض ذلك على الآخرين، وأختم بأننى أسأل الله السلامة لكل الزملاء، فأرى أن محكمة الرأى العام هى أقوى محكمة يقف أمامها كاتب أو إعلامى، حيث تريه عيوبه وأخطاءه وتعلمه احترام مشاعر الناس وعقائدهم كى يصدقوه ويحترموه أيضًا.