إنصاف المرأة مفتاح تجديد علاقة الدين بالمجتمع
تعرض شيخ الأزهر لانتقادات حادة عبر وسائل الإعلام عندما تحدث عن تفسير القرآن لضرب الزوجة. وفى ظل هذا الهجوم الإعلامى المباغت، يفاجئنا شيخ الأزهر بفتوى جديدة لتعزيز حق المرأة الاقتصادى فى ثروة زوجها، فيما يعرف بحق الكد والسعاية، وهى الفتوى الجديدة التى تفرق بين حق الزوجة فى ميراث زوجها وحقها كشريكة فى نصف ثروته. وبموجب هذه الفتوى يحق للمرأة التى شاركت زوجها وبذلت جهدًا ومالًا فى بناء ثروته أن تأخذ نصفها بعد وفاته أو بموجب الطلاق منه «بوصفها شريكته فى الثروة» إلى جانب حقها فى الميراث منه «بوصفها شريكته فى الحياة». لقد كان اختيار شيخ الأزهر للفتوى وتوقيت صدورها موقفًا ذكيًا للغاية من جانب شيخ الأزهر فى تحويل الهجوم المباشر على شخصه إلى تأييد كاسح وإشادة له من كل الفئات المدافعة عن حقوق المرأة. غير أن ما يلفت النظر فى هذه الفتوى أنها تكشف بوضوح عن معضلة تجديد الخطاب الدينى، ليس مع المرأة فحسب وإنما أيضًا مع المؤسسات الدينية ذاتها، وفى علاقتها المعقدة بالمجال العام «وبالتحديد الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعى» وهذا يقتضى الإشارة إلى خمس دلالات وتداعيات مهمة ينبغى التوقف عندها حول الدور الذى يلعبه الإفتاء فى المجال العام:
أولًا: كشفت الفتوى الجديدة فى سياق ظهورها أن تجديد الخطاب الدينى أو الفكر الدينى يعد أمرًا ممكنًا، وأقصد بالتجديد هنا تجاوب العقلية الدينية مع التغيرات والتحولات الاجتماعية الجارية. ولن يحدث ذلك مع انغلاق المؤسسات الدينية وانكفائها على ذاتها وإفراطها فى نخبويتها واستعلائها على المجتمع وفرض وصايتها على قيمه ومؤسساته ودولته. ويظل التجديد ممكنًا بفضل انفتاح المؤسسات الدينية على المجتمع والأفكار الحديثة والتجاوب مع التحولات الاجتماعية، ويصبح التجديد أيضًا مشروطًا بالضغوط الاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية التى تتعرض لها المؤسسات الدينية. ومن ثم فإن إصرار المؤسسات الدينية على احتكار المعرفة بشأن علاقة الدين بالمجتمع لن يسفر عن التجديد.
ثانيًا: أظهرت الفتوى الجديدة أن التهمة الموجهة للشريعة الإسلامية بأنها غير منصفة للمرأة تهمة ظالمة وغير صحيحة إلى حد كبير، ذلك أن هذه الفتوى الجديدة تؤكد أهمية التفرقة بين الدين فى ذاته، والدين كما يقدم لنا من جانب الجماعات الدينية والمؤسسات الدينية. وبالتالى فإن احتكار المعرفة بالدين يسهم فى تكريس معانٍ محددة، وفهم محدد لمقاصد الشريعة، وغض الطرف عن معانٍ أخرى أكثر انفتاحًا مسكوت عنها داخل الشريعة الإسلامية. ولهذا فالذين يدافعون عن انفراد المؤسسات الدينية بالتجديد هم أنفسهم الذين يصمتون إما عمدًا أو جهلًا عن فتاوى جديدة يمكن أن تسهم فى حل كثير من المشكلات الاجتماعية وتحقيق العدالة الاجتماعية. وهذا لا يقلل من الجهود الكبيرة والمهمة فى الإفتاء، والتى تقوم بها دار الإفتاء فى عمليات التجديد، وفى ظل المنافسة الشديدة والمهمة أيضًا مع الأزهر والأوقاف حول الإفتاء. غير أن ما فعله شيخ الأزهر- ما بين الفتوى المؤيدة لضرب الزوجة والفتوى التى تؤيد تمكين الزوجة اقتصاديًا- يعكس مدى قدرة المؤسسات الدينية على لعب أدوار سياسية فى المجال العام، ويعكس أيضًا مدى ارتباط عملية التجديد بإرادة أشخاص يشغلون مواقع مؤثرة فى المجال الدينى، فهم الذين يقررون متى تصبح الشريعة منصفة للمرأة ومتى تصبح ظالمة لها. وهذا يؤكد أنهم مصدر المعضلة ومفتاح الحل فى ذات الوقت بشأن تعثر عملية الإصلاح الدينى ككل.
ثالثًا: من المتوقع أن تفتح الفتوى الجديدة الباب على مصراعيه للخلاف حول هذا الحق الجديد للمرأة فى ثروة زوجها، بين المؤيدين للفتوى «بدعوى إنصاف المرأة» والمعارضين لها «بدعوى الحفاظ على التماسك الأسرى»، على اعتبار أن الفتوى الجديدة إذا تحولت إلى قانون فإنها قد تفتح الباب لصراعات المصالح بين أفراد الأسرة، خاصة الرجال والنساء، بما يهدد التماسك الأسرى- على حد زعم المعارضين. وبذلك يصبح الخلاف المحتمل حول الفتوى فى جوهره اجتماعيًا، خاصة حين يكون التجديد مقبولًا من الأزهر كأعلى مؤسسة دينية، ومرفوضًا فى الوقت ذاته لدى قطاع كبير من المجتمع تُهيمن عليه الثقافة الذكورية. وهذه واحدة من المفارقات التى توضح أن انفتاح المؤسسات الدينية ليس شرطًا كافيًا للتجديد والإصلاح الدينى، بل ينبغى أن يصاحبه أيضًا تجديد فى الثقافة المجتمعية المعززة لعدم المساواة.
رابعًا: يمكن للفتوى الجديدة أن تثير كثيرًا من الخلافات الدينية فى التفسير حول مبدأ المساواة فى الميراث بين الذكر والأنثى، بالإضافة إلى الخلاف حول تفسير حق الكد والسعاية: هل يعنى فقط حق المرأة فى نصف ثروة زوجها بموجب مساهمتها الاقتصادية فى بناء ثروة زوجها؟ أم أن هذا الحق يتضمن أيضًا ما بذلته من جهد بدنى ومعنوى «كربة منزل» فى الأعمال المنزلية وتربية الأبناء وخدمة الزوج؟ طبعًا المعنى الأول يجعل الفتوى تنطبق فقط على قلة من النساء القادرات اقتصاديًا، بينما المعنى الثانى ينطبق على الغالبية العظمى من النساء اللائى يعملن كربات بيوت فقط. بعض رجال الدين تعجلوا وقالوا إن حق الكد والسعاية يخص فقط النساء المشاركات بأموالهن فى ثروة الزوج، وهم يختزلون بالطبع المشاركة الاقتصادية للمرأة فى المساهمة المالية فقط، ويتناسون أن عمل المرأة المنزلى كله اقتصادى فى جوهره، ولكنه غير مدفوع الأجر، على عكس العمل خارج الأسرة بأجر. وكل ذلك يعكس صعوبة الإجماع الدينى حول فهم محدد لمعنى الفتوى وضوابط تطبيقها، ويعكس أيضًا مدى التعقيد الشديد الذى يمكن أن يواجه أى تشريع جديد حول تطبيق هذه الفتوى الجديدة.
خامسًا: من المتوقع أن تعزز الفتوى الجديدة وجود نقاش وجدل مجتمعى واسع النطاق حول جدوى الأخذ بالفتوى والتشريع لها فى قانون منظم لضوابطها، وهذا يفرض على المؤسسات الدينية الدخول فى حوار ونقاش وجدل كبير مع فقهاء فى القانون ومفكرين ومثقفين وإعلاميين وسياسيين وكذلك علماء وباحثين فى العلوم الاجتماعية حول كيفية تفعيل حق الكد والسعاية دون أن يتسبب فى آثار اجتماعية واقتصادية ضارة. ويقتضى ذلك بطبيعة الحال الاطلاع على تجارب أخرى فى العالم الإسلامى- وبالأخص المغرب وتونس- حاولت تطبيق تلك الفتوى الجديدة. وهذا يعنى أن المجال الدينى أصبح بصدد مواجهة حقيقية محتملة مع المجال العام عبر نقاش مكثف حول جدوى تحويل الفتوى إلى تشريع منصف للمرأة. وفى هذه الحالة يتعين على المؤسسات الدينية، وعلى رأسها الأزهر، أن تكون مستعدة للحوار الخلاق مع الآخرين دون استعلاء ودون حساسية لأى شطط فى التأويل أو التفسير، وأن تتخلى المؤسسات الدينية عن صراعاتها حول احتكار المجال الدينى. إنها فرصة حقيقية للحوار حول تجديد الخطاب الدينى خارج المؤسسات الدينية، وهى فرصة بلا شك لممارسة حرية التفكير ولتذويب حواجز التكفير التى شاعت بين المشتغلين بالشأن الدينى والعلمانيين، خلال هيمنة حركات الإسلام السياسى من قبل على المجال العام فى مصر. وفى هذه الحالة يتعين على الدولة- بوصفها طرفًا محايدًا ومنظمًا للمجال العام- أن تتيح الفرصة كاملة للحوار المنظم والهادف إلى إصلاح دينى حقيقى. ومن المفارقات أن تصبح قضايا إنصاف المرأة مفتاح التجديد الحقيقى فى علاقة الدين بالمجتمع.