هوامش على دفتر «التنوير»
أتابع بين وقت وآخر الضجة التى تثيرها تصريحات أحد مشاهير الإعلاميين ممن يضعون أنفسهم فى خانة «التنوير».. الضجة تسببها حالة من الصدمة لدى الجماهير التى لم تعتد على مناقشة أمور العقيدة بأسلوب ساخر أو صادم أو إثارى.. ويتداخل فيها مصريون عاديون يخافون على دينهم، بسلفيين ومتطرفين يخافون على تصوراتهم للدين كوسيلة للسيطرة.. والحقيقة أننى أخذت أفكر فى موقفى من هذا المنهج فى إثارة الجماهير فوجدت أن «عقلى معه وقلبى عليه».. أما ما أقصده بأن عقلى معه فهو أن العقل لا يرفض مناقشة أمور الدين بالعقل والتمحيص والمنهج العلمى كما فعل آباء الثقافة المصرية العظام، أما أن «قلبى عليه» فهو لأننى أتشكك فى نوايا قائله، ولا أعرف هل لتحقيق مزيد من المكاسب المالية من بعض الجهات الراعية له التى تلعب دور «المنتج» و«الممول» لبرامجه فى الداخل والخارج أيضًا، أم أن نيته خالصة لوجه الوطن ولوجه التنوير.. أم أنه يخلط هذا بذاك، ويبيع توجهًا أصليًا لديه فى سوق الأفكار الرائجة ليحصد مكاسب من هنا ومن هناك؟.. وما أريد أن أقوله إن أى فكرة تفقد تجردها وتتحول لسلعة هى فكرة حقيرة مهما بدا لمعانها ومهما ادعى صاحبها نبل مقصده.
إننى أذكر أن د. نصر حامد أبوزيد، المفكر العظيم والأستاذ الجامعى العملاق، علق قائلًا على تضامن أحد من يتكسبون بالتنوير معه فى محنته: «لا أريد تضامنًا من مهرجين»!! والمعنى أن هذا الرجل الشريف أدرك أن ادعاء التنوير ممكن أن يكون طريقًا للبعض لتكوين الثروة وإحراز المنافع وحصد الملايين والمليارات أصلًا.. والواقع يقول إنه ما أشبه الليلة بالبارحة!
والسؤال الجاد الذى يجب أن يطرحه الإصلاحيون على أنفسهم «دعك من لفظ التنوير فقد أصبح مشبوهًا للأسف».. هو ما الهدف من جهدهم؟ وإجابة السؤال هى التى ستحدد موقف الناس منهم.. فإذا كان الهدف هو إحداث صدمة للناس فى عقيدتهم، أو التنفيذ الحرفى لأهداف تقرير مؤسسة راند الأمريكية ذات الصلات الواضحة بالإدارة الأمريكية، أو طلب المنفعة ممن يخلط بين كراهية التطرف وكراهية الإسلام نفسه، أو تنفيذ تصور أمريكى لمحاربة التطرف وفق برامج إعلامية منتجة بسخاء ويغدق على صناعها ملايين الدولارات.. فإننى أقول إن هذا الهدف هو هدف غير شريف، وغير محترم، بل هو هدف مشبوه، ورخيص، يرقى إلى مرتبة الخيانة الفكرية، والوطنية أيضًا، ومن حق الناس أن تغضب منه، وتعلن عن احتقارها له بكل طريقة تحلو لها.. وأنا لا أدافع عمن له هذه الأهداف، ولا أحترمه من الأساس، وأنظر له مثلما أنظر لكل تاجر أفكار، ولكل متمول وبائع لأفكاره.. أما إذا كان الهدف إصلاحًا حقيقيًا للفكر الدينى، برؤية إصلاحية مصرية، من داخل مجتمعنا، وبفهم كامل لظروفه ومراحل تطوره، ولوجه الله سبحانه وتعالى، ولوجه هذا الوطن الكبير، لا بحثًا عن منفعة صغيرة مهما كبرت، ولا بحثًا عن إرضاء هذا الملياردير أو ذاك المليونير.. إذا كان الهدف هو الإصلاح لوجه الله فإننى أول المطالبين بالإصلاح، والساعين له، ورافعى رايته.. إذن فإن خلوص النية لوجه الوطن هو أول معالم هذا الإصلاح، أما ثانى هذه المعالم فهو احترام ثقافة الناس ومقدساتهم وعاداتهم ومخاطبة عقولهم بهدف الإقناع وليس بهدف الصدمة، وركوب التريند وإحداث أكبر قدر من الضجة لاستجلاب مزيد من التمويل.. إن هدف الإصلاح فى هذه المرحلة هو اقتناع الجميع بمبدأ أن الدين لله والوطن للجميع.. وأن كل شخص حر ما دام لم يجبر الآخرين على طريقة فهمه للدين.. إننا لا نريد استبدال تطرف دينى بتطرف علمانى، ولكن نريد أن نمنع التطرف على أى جانب، فلقد عانينا نصف قرن من فرض المتطرفين الحجاب والنقاب بقوة الضغط الاجتماعى، واليوم فإن المكسب هو أنه لا أحد يمكنه إجبار فتاة على ارتداء ما لا تقتنع به، لا فى مدرسة، ولا جامعة، ولا شارع، ولا مقر عمل، ولكن فى نفس الوقت لا يمكن أن نكون مخابيل مثل «بعضهم» فنسعى لإجبار النساء على خلع الحجاب أو ارتداء المايوه!! لأن كل واحد حر.. ومن ترتدى الحجاب عن اقتناع أو ارتياح هى حرة طبعًا.. وأنا كرب أسرة ولابنة صغيرة دورى أن أضمن لها ألا يجبرها مخلوق على ارتداء ما لا تريد، لكنى فى نفس الوقت لا يمكن أن أجبرها على خلع الحجاب إذا أرادت أن تتحجب.. وكل من يفكر فى عكس هذا هو شخص مختل ومتطرف ولا يحترم ثقافة الآخرين ولا حريتهم.. نفس الأمر بالنسبة لأى ممارسة يمارسها أى مسلم.. ما دام لا يجبر الآخرين على تقليده أو يعاديهم لأنهم لا يقلدونه.. من يُرد أن يقرأ القرآن فليقرأ، هو حر.. والإمام محمد عبده إمام الإصلاح كان يقرأ القرآن.. والزعيم القبطى مكرم عبيد كان يقرأ القرآن.. وأى شخص حر يقرأ القرآن أو يقرأ أى كتاب آخر.. والفكرة هنا أن نضمن عدم إجبار أى مصرى على أى شىء لا يريده.. أما الاعتراض على قراءة القرآن فهو خبل عقلى وتطرف علمانى ورقص فى حلبة كارهى الدين نفسه بهدف الحصول على بعض حبات الفول السودانى! هذا خبل وتطرف كريه وعدم وعى بالواقع أو سعى لتحقيق أهداف غير شريفة تحت ستار التنوير.. الإصلاح الحقيقى هو ضمان عدم إجبار أى مصرى على ممارسة متطرفة، أو فهم متطرف للدين، وهو منع تحول الدين إلى سلعة، سواء لدى من يتاجرون به أو لدى من يتاجرون بنقده وادعاء إصلاحه، نقطة ومن أول السطر.