رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ثابت ودرملى باشا».. جريمة التزوير التى كذبت مقولة «السقا مات»

الباحث أيمن عثمان
الباحث أيمن عثمان

في كتابه الصادر عن دار دوِّن للنشر والتوزيع تحت عنوان "موسوعة تراث مصري.. الجزء الثاني"، يحكي الباحث أيمن عثمان عن مهنة السقا وهي التي كانت منتشرة في مصر منذ عقود كثيرة.

يقول أيمن عثمان: "عاش المعلم شوشة السقا، ولم يمت في نهاية فيلم "السقا مات" الذي جرت أحداثه في زمن عشرينيات القرن الماضي، ولكن مهنته لفظت أنفاسها الأخيرة أواخر الأربعينيات بفعل الكوليرا، الحكاية من بدايتها، سقاءون ابتكروا الديلفري، وكانوا أول من طرقوا الأبواب لتسليم سلعتهم بدون مصاريف شحن، والسعر ثابت أينما كنت.. كانوا بالآلاف.. يتجمعون بعد صلاة الفجر على طول شاطئ الخليج المصري، وهو مجرى مائي كان يمتد قبل ردمه من فُم الخليج إلى ترعة الإسماعيلية مرورًا بالسيدة زينب وباب الخلق والزاوية الحمراء.. يسعون إلى رزق يعتمد على خدمة الأهالي في توصيل المياه النظيفة إلى بيوتهم ومدارسهم ومحالهم التجارية ومساجدهم وكنائسهم والأسبلة العامة".

أدبيات الطائفة

يكمل عثمان لـ«الدستور»: قديمًا كان لكل طائفة أدبياتها وشروطها الخاصة في العاملين بها، وطائفة السقائين كانت من الطوائف صاحبة الخصوصية، فالسقا شخص يتعامل مباشرة مع السيدات، وهو أمر كان وما زال عند المصري له حساسيته، لذلك فشروط الانتساب لهذه الطائفة كانت تدور في فلك التدين والأمانة.. متدينًا لمراعاة حرمة المنزل الذي يدخله، وأمينًا ومخلصًا في عمله، فلا يستخدم قربة مصبوغة فتفسد الماء، ولا مثقوبة فتقل الحصة المتفق عليها، وكان لزامًا عليه أن يبذل مجهودًا مضاعفًا للوصول إلى تواجد المياه النظيفة بعيدًا عن المياه الراكدة والملوثة بالمخلفات البشرية وجيف الحيوانات، وكان عليه أن يطهر الماء بمادة الشبة، ويعطره بماء الورد وعيدان النعناع لزوم دلع الزبون.

رخصة السقا

ويواصل: "أن تكون سقا، عليك أن تخضع لاختبارات وكشف طبي وكشف هيئة، أن تختبر في التحمل، وأن يشهد لك الناس بحسن السير والسلوك إن لم يكن والدك سقا قديمًا فيشفع لك للانضمام، فالطائفة كغيرها من الطوائف والمهن والوظائف والمناصب.. محجوزة لأبناء العاملين.. فابن السقا سقا، وابن الباشا باشا".

وبالنسبة لاختبار التحمل لغير أبناء العاملين، فله شكل محدد وتقليدي، يحمل المتقدم على كتفه قربة مملوءة بالرمل تزن ثلاثين كيلو جرامًا لمدة ثلاثة أيام دون أن يتكئ على حائط أو يجلس على كرسي.. بعد النجاح في الاختبار يخضع المتقدم للكشف الطبي لإثبات خلوه من الأمراض الجلدية والمعدية، ويمنح رخصة سقا مدون فيها اسمه ومحل سكنه، وسنه، ومحل ميلاده وجنسيته، وهي رخصة شبيهة برخص باقي الطوائف وبرخصة تحرير العبيد وبرخصة محل العاهرات، ولكن يميز رخصة السقا وجود رسم كاريكاتيري لسقا يحمل قربة، وجملة "تسيير واعتماد سقا".. بعدها يباشر عمله الرئيسي بتوريد المياه للمحتاجين إليها في المنازل والمحلات التجارية.

السقاءون رجال الإطفاء

وتابع: في ثلاثينيات القرن التاسع عشر تقاضى السقا ثمنًا لسعة القربة الواحدة 10 فضة مضروبة في عدد مرات توريد القرب بعد أن يحسب مجموع العلامات التي كان يرسمها خلف باب المنزل في كل مرة توريد، وفي المواسم والأعياد الدينية مثل شهر رمضان والموالد والأفراح وحفلات الختان.. الرزق واسع.        

وبجانب توريد المياه كان عليه أن يكون متأهبًا وقت اللزوم للعمل كرجل إطفاء، فإذا كان في فترة عمله عليه ترك ما بيده، والذهاب بقربته المملوءة إلى مكان الحريق للمساعدة في إطفائها، وفي أوقات فراغه وجب عليه رش الأسواق والشوارع الترابية وأمام المحلات التجارية، وتوزيع المياه على السائرين العطشى مجانًا.

كوردييه بداية النهاية

واستطرد عثمان: "بعد ما يزيد على 1000 عام من خدمة طائفة السقائين للمصريين سطر الخديو إسماعيل بداية النهاية للطائفة عندما أمر بردم الخليج المصري، ومنح امتياز ضخ المياه للمنازل لشركة كوردييه، والتي عرفها المصريون باسم كوبانية الميه، ولم تكن أنابيب المياه قد امتدت إلا في منازل الأثرياء الذين يستطيعون دفع النفقات الباهظة التي كانت تفرضها شركات المياه الخاصة على طالبي المياه النظيفة، ولكن شركة كوردييه كانت تريد مزيدًا من المكاسب الطائلة، ولذلك عممت حنفيات المياه الكبيرة والعمومية في الأحياء التي يصعب على سكانها جلب المياه من الترع أو الخليج.. 

تم المخطط كما أرادت الشركة، وأقبل الأهالي على شراء المياه بالثمن الذي فرضته، وهو مليم واحد ثمنًا لكل صفيحة، وستين خردة "مليم ونصف" ثمنًا لكل قربة.. في البداية استعان فئة من السقائين بهذه المحطات، وكانوا يعتمدون في كسب رزقهم على جلب المياه منها، فقد وجدوا أن الحنفيات العمومية تختصر عليهم طريقًا كانوا يقطعونه عشرات المرات يوميًا لإحضار المياه من النيل أو الخليج، فأقبلوا على هذه المحطات يشترون منها المياه المكررة النظيفة ليوصلوها إلى المنازل، وكانت هناك محطة كبيرة لتكرير هذه المياه، ومكانها في نفس المكان الذى شيدوا فيه دار القضاء العالي بشارع رمسيس.

 ماركة على كل صفيحة

تعامل السقاءون مع بائع المياه الجالس في كشك المحطة بطريقة دفع ثمن القربة بالمارك، وحددوا فيما بينهم "ماركة" على كل صفيحة يصرفها البائع.. على أن يستردوا هذه الماركات في آخر اليوم ثم يحصوا عددها، ويدفعوا ثمن الماركات المستردة، وهى طريقة استخدمتها بعد ذلك محلات العصائر، والمقاهي الشعبية.. لاحظت بعض الأسر هذه الطريقة المتبعة بين السقا والجالس في الكشك، فبدأوا يقلدون هذه الطريقة بينهم وبين السقا، واختفت طريقة رسم علامات بالطباشير خلف أبواب المنازل.

كان يراعي حرمة النساء

روى عن عامل الحنفية الجالس في كشك المياه، والمسيطر على عملية البيع أنه ينطبق عليه مثل ذلك التركي "الأنزوح" الذى وضع أمامه عددًا من "القلل" المملوءة بالماء، وكلما أقبل عليه شارب أمره بأن يشرب من "قلة" معينة لكي يشعر نفسه والآخرون بأنه سيد مطاع، فاختلفت أخلاقيات المهنة والطائفة.. السقا الذى كان ينتمي إلى الطائفة يقدم في خدمته السيدة الحامل والمسنة عن غيرهما، وعامل الكشك يقدم سيدة على سيدة أخرى وسقاء شخص قبل شخص آخر على حسب المزاج.. السقا كان يراعى حرمة النساء ودائم النظر في الأرض إذا تعامل معهن، وعامل الكشك الذى ينتمي إلى الكوبانية كان قاضي غرام لكثرة حكيه مع النسوة.. السقا كان يقدر ظروف زبائنه الاقتصادية، وعامل الكشك كان يساعد الشركة في استنزاف الأهالي لهذا كانت أجرته اليومية من الكوبانية 16 قرشًا وهو مبلغ كبير في تلك الفترة.

وزارة الصحة والحنفيات العمومية

في مطلع أربعينيات القرن الماضي فكرت وزارة الصحة أن تضع يدها على هذه الحنفيات العمومية لتقديم المياه مجانًا للفقراء بعد أن استنزفتهم الشركة بأسعارها، ولكن الشركة الأجنبية رفضت، واحتمت بالامتيازات الأجنبية، فاشترت الوزارة من الشركة 140 حنفية عمومية من أصل 300 حنفية مملوكة للشركة وموزعة في جميع أنحاء القاهرة.. تركت الوزارة 21 منها يستغلها السقاءون ليتعايشوا منها، ووهبت البقية للأهالي مجانًا، وعندما ضرب وباء الكوليرا ضربته الشديدة في أرجاء القاهرة عام 1947 قررت الوزارة شراء باقي الحنفيات من الشركة الأجنبية، واستردت الحنفيات التي يستفيد منها السقاءون لتعميم المياه النقية في جميع الأحياء إنقاذًا لسكانها من الوباء الأصفر، فحاول السقاءون أن يحتجوا ويتظاهروا ويعتصموا بشكل فئوي، ولكن الوزارة لم تسمع لهم، وأخضعت كل الحنفيات العمومية للكشف الصحي الدوري، واختفى السقا نهائيًا من الشارع المصري، وماتت مهنته، وحفظها التراث بحكاياته وصوره.

جريمة تزوير تكشف كذبة "السقا مات"

يكمل أيمن عثمان:" اطلعت على قصاصة ورق لمجلة قديمة، وعرفت من أحد الإعلانات المنشورة أنها تعود لثلاثينيات القرن الماضي، وجدت في الورقة ثلاث صور شخصية بينها اختلاف كبير في التفاصيل والملامح، والمجلة تسأل قراءها: أي صورة أصدق لمحمد على باشا الكبير؟

وكُتب في المجلة "كيف كان وجه محمد على باشا رأس الأسرة الملكية، وباني مصر الحديثة؟ لا شك أنه كانت له ملامح تتجلى فيها العظمة تنبئ عما بنفسه من العزيمة التي لا يقف في سبيلها عائق.. غير أن الصور التي رسمها الرسامون المعاصرون له والتماثيل التي خلد بها المثالون شكله، كما خلدت أعماله اسمه.. قد اختلفت فيها ملامحه، وتباينت سحنته حتى إن الناظر إليها لا يكاد يحسب أنها لشخص واحد"، لم يكن لمحمد على صورة فوتوغرافية واحدة.. 

عندما شاهد أول صورة أخذت في مصر، وكانت لواجهة مبنى حرملك قصر الإسكندرية قال "هذا من عمل الشيطان"، ورفض تصويره خوفًا من شيطان الصور.. بعد ريبورتاج المجلة تنبهت الأسرة الملكية لهذه الإشكالية، فاعتمدت صورًا لمحمد على سبق ورُسمت في عهد الخديو إسماعيل، وبينها تشابه كبير، وفيها قربت تفاصيل وملامح محمد على باشا من ملامح إسماعيل لتنفي ما روج له فرع حليم في الأسرة أن إبراهيم باشا ليس ابنًا لمحمد علي.. بل هو ابن زوجته، وبالتالي لا يحق لإسماعيل حكم مصر لأنه يعارض اتفاقية كوتاهية، وعن هذا قال نوبار قنصل فرنسا في مصر وراء هذه الشائعة.. 

لا أعلم.. كيف تكون شائعة وتفاوض إسماعيل وحليم على حكم مصر؟

لم يكن لمحمد على صورة فوتوغرافية، ولم يكن لمعاصريه ووزرائه وحاشيته صور فوتوغرافية.. هي مشكلة لم يعانوا منها إلا عندما صدر فرمان من الخديو إسماعيل عام 1872 بإقامة تماثيل لرجال محمد على، ومنهم رئيس وزرائه ومهندس مذبحة القلعة "لاظ أوغلي".. الفرمان سيف على رقاب  العباد والمسئولين، وأوامر الحكام مقدسة مهما كانت الصعوبات..

خوف الحكومة من مخالفة أمر الخديو، وفقدان ثقته.. ألجأهم إلى فن الفهلوة، فكلفوا اثنين من الباشوات بحل هذه الإشكالية، وهما ثابت باشا ودرملي باشا، والاثنان عاصرا "لاظ أوغلي" في طفولتهما، وبعد مناقشات ومداولات، وتفكير متبادل.. فشلا في إيجاد حلول تخرجهما من هذا المأزق..

 في هذه الأثناء شاهد ثابت باشا «سقا» يقوم برش الأرض أمام المقهى الذي يجلسان عليه، فأشار على السقا للدرملي، وقال له: هذا السقا يشبه "لاظ أوغلي".. في البداية اعترض الدرملي على ملحوظة ثابت، وعارضه في هذا، وحدث جدال طويل بينهما.. انتهى بأن السقا يشبه "لاظ أوغلي"، والأمر لله.

في اليوم التالي زار ثابت والدرملي ومعهما السقا المثال «جاك مار»، وطلبوا منه عمل تمثال لاظوغلي بنفس هيئة السقا بعد أن ألبسوه ملابس لاظوغلي.

ومنذ 1872 وليومنا هذا، وفى الميدان المشهور باسمه.. يوجد تمثال شاهد على جريمة تزوير في ملامح رسمية.. جريمة كشفها أمين باشا سامي في "تقويم النيل"، وعبدالمنعم شميس في «حرافيش القاهرة».. جريمة تمثال يحيا معنا في حياتنا اليومية، ويشهد بكذب مقولة.. السقا مات.

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب