مأزق الهلع من الإلحاد
أثار موت كاتب علمانى شهير عاصفة من الصدمة الشديدة، سواء لدى من يؤمنون بالدين أو من يؤيدون أفكاره وإلحاده، وإذا كان الفريق العلمانى يتألم من فقد إحدى بقايا العلمانية المقاتلة للفكر الدينى والغيبى، فإن الفريق الثانى مصدوم من عبارات الإلحاد التى قيلت فى وصيته التى يرفض فيها كتابة وقراءة القرآن على قبره، وكذلك تسجيلاته على اليوتيوب التى يتم تداولها الآن على أوسع نطاق، والتى تتضمن تشكيكه فى ثوابت العقيدة الإسلامية بعبارات حادة وساخرة.. وما يلفت النظر حالة الدهشة والهلع الشديد لدى كثير من المؤمنين، ومعهم رجال الدين، من تداول خطاب السخرية الإلحادى من جانب تيار متطرف من العلمانيين على مواقع التواصل الاجتماعى، وهذا المشهد يتطلب أن نحلل من منظور علم الاجتماع الدينى مأزق التطرف لدى الطرفين فى الصراع على التأثير فى الرأى العام من خلال ملاحظتين أساسيتين:
الملاحظة الأولى تتعلق بعدم إدراك تيار التطرف العلمانى مدى الهلع الدينى من الإجهار بالإلحاد لدى المؤمنين بالدين عمومًا، والديانات الإبراهيمية على وجه الخصوص، ذلك أن البشر لا يستطيعون الحياة دون أن تكون لديهم رؤية متكاملة للعالم، وهى الرؤية التى تجيب عن الأسئلة الوجودية عن الحياة والفناء؛ من أكون وكيف أحيا وما معنى أن أموت وماذا بعد الموت؟.. رؤى العالم هى باختصار المعتقدات التى نحيا بها وتفسر لنا رحلتنا فى الوجود من الميلاد إلى الممات، وعالمنا ملىء بالكثير من تلك الرؤى التى يمكن أن نختصرها تجاوزًا فى ثلاث دوائر كبرى: «١» رؤى العالم الدينية، «٢» رؤى العالم الروحية، و«٣» رؤى العالم الطبيعية.. قد تختلف كل دائرة من هذه الدوائر الثلاث فى نوع المعتقدات الخاصة بها، وهذا يعنى أن القاسم المشترك بين هذه الرؤى أنها تنطوى على معتقدات فى النهاية، فالذى يؤمن بأن الله خالق كل شىء يتبنى عقيدة دينية، والذى يؤمن بالروح كأساس للوجود والفناء والطاقة التى تحركها فى الحياة يؤمن بعقيدة روحية، وحتى من يرى أن الإنسان ابن الطبيعة لديه اعتقاد فى ذلك.
وهذا يعنى أن أى رؤية للعالم تمثل عنصر الإيمان فى حياتنا، ولا يستطيع أى شخص أن يحيا دون أن يكون مؤمنًا، أيًا كان نوع إيمانه ومعتقداته، وهذا ينطبق على كل الناس بمن فى ذلك الذين يقولون عن أنفسهم إنهم ملحدون، فهؤلاء قرروا التخلى بإرادتهم عن الإيمان بمعتقدات محددة غيبية بالطبع، وقرروا عن قناعة تامة تبنى معتقدات أخرى بديلة لكى تستمر الحياة، وما يجعلهم مختلفين عن المؤمنين بعقيدة غيبية أنهم متمردون على الغيبيات ولم يقبلوا بأن يرثوا الإيمان بعقيدة دينية أو روحية بفعل التنشئة الاجتماعية منذ نعومة أظافرهم، بل يخوضون معركة تحوّل ضارية نفسية واجتماعية لكى يبرهنوا على مصداقية ما يؤمنون به.
هذا التحوّل لدى الملحدين ليس أمرًا سهلًا بأى حال من الأحوال، ويصاحبه جهد عقلى ونفسى شديد الوطأة، ويفسر لنا سبب الإجهار بالإلحاد لأنه يعكس رغبة حقيقية فى الانتصار النفسى والاجتماعى على السلطة التى يتمتع بها الإيمان بالدين وبالغيبيات، إنهم يحوّلون الصراع الداخلى فى ذواتهم إلى صراع خارجى مع الآخرين المؤمنين، وقد يصل ذلك إلى حد لجوء بعض الملحدين إلى الاستعلاء على المؤمنين بقسوة بالغة عبر الاستهانة بثوابت المعتقدات الغيبية والسخرية الحادة منها على الملأ، وربما أيضًا الشتائم بأقبح الألفاظ للمعتقدات والمبادئ والأشخاص الذين يحظون بالقداسة والاحترام فى نفس المؤمنين بهم، ووصف كل المؤمنين بالديانات بأنهم ليسوا بشرًا عقلاء بل هم أقرب إلى الحيوانات التى تحيا بغريزتها كالقطيع.
وبعض الملحدين لا يكتفى بموقفه الشخصى، بل يخوض معارك كلامية يستمتع خلالها بمشاعر الدهشة التى يمكن أن تصيب المؤمنين بالشكوك التى يطلقها فى حواراته، بل يشعر أحيانًا بالزهو والانتصار عليهم، وهذا يفسر لنا حالة الصدمة النفسية الكبيرة التى تصيب كل شخص مؤمن بعقيدة دينية يتم التشكيك فى ثوابتها.
لا أحد يعلم مدى القلق الوجودى الأشبه بالزلزال الذى يصيب شخصًا مؤمنًا بعقيدة دينية يستمد منها معنى وجوده وطموحه فى الحياة، فالدين له وظيفة مهمة لا يعلمها العلمانى المتطرف، وهى: خلق اليقين فى الوجود والحياة والفناء، والحياة بعد الآخرة، هذا اليقين المشترك أطلق عليه عالم الاجتماع الشهير إميل دوركايم «الضمير الجمعى» والذى يحفظ التضامن ومشاعر التماسك الاجتماعى بين الناس ويحقق الاستقرار النفسى للبشر المؤمنين بقيم دينية مشتركة، هذا اليقين هو ما يربط الحياة بعالم الغيب فى وحدة واحدة لا تنفصل، فالطبيب الذى يجرى جراحة دقيقة لمريض يستخدم كل قواعد العلم فى إجراء العملية ومع ذلك قد يصلى ويبتهل إلى الله أن يوفقه، تمامًا مثلما يفعل المزارع حين يحرث الأرض ويبذر البذور بقواعد معرفية واضحة ثم يدعو الله أو يقدم نذورًا لأحد الأولياء أو القديسين أملًا فى أن يمن الله عليه بمحصول وفير دون أن تصيبه الآفات الزراعية أو كساد الأسواق.
وهذا يعنى أن البشر المؤمنين بالغيبيات يمارسون العلمانية فى حياتهم دون تعارض بين هذا وذاك، أنا هنا أتحدث عن التدين العادى وليس التدين الذى تطرحه الحركات الدينية- حركات الإسلام السياسى، وبالتالى فإن اليقين الذى يربط عالم الحياة بعالم الغيب لدى الشخص المؤمن بمعتقدات دينية هو أشبه بأعمدة المبنى لا يمكن تصور وجوده المستقر دون وجود وثبات تلك الأعمدة.. هذا يفسر حالة القلق الوجودى التى تصيب الناس المؤمنين بعقيدة دينية حين يتهكم عليها أحد أو حين يشكك العلمانى المتطرف فى جدواها بسهولة، وبالتالى كيف نطالب شخصًا عاش حياته كلها بهذا اليقين بأن يتخلى عن كيانه بسهولة، مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف درجات الإيمان والتدين بين الناس، بعضهم يصل الإيمان لديه بالمعتقدات الدينية كأنها امتداد طبيعى لجسده وروحه وأنفاسه التى يتنفس بها.. إنها حالة انصهار شديد بالمعتقدات الدينية تحدث فى ظل ظروف وعوامل اجتماعية ونفسية معقدة وعميقة مرتبطة بتجربة التدين والتنشئة الاجتماعية الدينية.
الملاحظة الثانية تتعلق بعدم فهم المشتغلين بالشأن الدينى حدود تجربة الإلحاد على حقيقتها وتضخيمهم من شرورها، وعدم تقديرهم خطورة أن يتحول الجهر بالإلحاد إلى صراع دينى علمانى بما ينطوى على تداعيات اجتماعية وسياسية حادة، ذلك أن تجربة الجهر بالإلحاد والهجوم الحاد على المعتقدات الدينية من جانب أى شخص علمانى تصيب القائمين على الشأن الدينى داخل المؤسسات الدينية بالهلع الشديد على رسالتهم، باعتبارهم ينظرون لأنفسهم بأنهم حراس للعقيدة الدينية، ووجودهم مرهون بوجود تلك العقيدة، وأى سقوط لها سقوط لهم، ومن الطبيعى أنهم سوف ينقضون بكل قوة للذود عن رسالتهم الدينية، خاصة فى ظل الفراغ الكبير الذى أحدثه غياب تيارات الإسلام السياسى عن ساحة المجال العام الآن، وكأن معركة العلمانية مع الدين أشبه بحرب دينية لا نهاية لها ولا أمل فى تسويتها بطريقة سلمية، وكل طرف يريد القضاء على الآخر وإفناء وجوده.
وفى مثل هذه الأحوال يُجيش كل طرف مؤيديه فى معركته، ويتحوّل المؤمنون المصدومون بالتشكيك والسخرية بالمقدسات الدينية إلى كتائب للهجوم على كل علمانى حتى ولو كان مؤمنًا وحتى ولو كان معتدلًا فى أفكاره، ويتم تشويه العلمانية بأنها فسق وفجور وكفر وإلحاد على نحو ما سبق أن رأينا خلال الصراعات التى شهدتها ٢٥ يناير ٢٠١١ و٢٠١٢. ومن الطبيعى أن يلجأ كل طرف إلى القانون للنيل من الطرف الآخر، كل طرف يريد أن ينصفه القانون، ويريد للدولة أن تكون فى صفه، ومن ثم تصبح الدولة فى مأزق يحول دون قدرتها على إحكام السيطرة على المشهدين الدينى والثقافى وكذلك المجال العام، خاصة فى ظل توغل الشريعة الإسلامية فى كثير من النصوص القانونية، ومن أخطر التداعيات التى يمكن أن تترتب على ذلك عودة السياسة إلى قلب المشهد الدينى بما ينطوى ذلك على أخطار حقيقية تعيد عقارب الساعة إلى الوراء مرة أخرى. ش