المسرح وتحديات الجمهور فى عصر الميديا الجديدة
المسرح هو الفن الجماعى الذى له القدرة على خلخلة رؤيتنا الموروثة والمعتادة للعالم فى فن له طابع حوارى متنوع ومتعدد المستويات، وكما يقول الكاتب المسرحى الراحل سعدالله ونوس «فهناك حوار يتم داخل العرض المسرحى، وهناك حوار مضمر بين العرض والمتفرج، وهناك حوار ثالث بين المتفرجين أنفسهم. وفى مستوى أبعد، هناك حوار بين العرض المسرحى عرضًا وجمهورًا والمدينة التى يتم فيها هذا الاحتفال».
ولا أبالغ إن قلت إن مستويات الحوار فى المسرح تتجاوز ذلك، فالحوار الواحد يصير أكثر من حوار- بعدد ليالى العرض- حيث لا شىء يحدث مرتين، حوار حى متجدد، حوار حقيقى ينبنى بصورة أساسية على الخلاف والشك الفلسفى كشرطين مسبقين للحوار، دون طرح مسبق لحسمهما. وعبر تلك اللعبة الحوارية نستطيع التحرر والانعتاق من مونوتونية الأطر الفكرية السائدة ذات المرجعيات الدينية والسياسية.. إذن فالميزة التفاعلية الحية التى يتفرد بها المسرح عن سواه من الفنون ربما تكون هى طوق النجاة فى عالم يتجه بجنون نحو العزلة.. عزلة الفرد، وتحديد إقامته بطريقة اختيارية، حيث أصبح حتى الطفل أكثر ميلًا إلى التفاعل والتفرد بالوسيلة فى صحبة وسيلة تكنولوجية.. تأتى له بكل ما يرغب فى مشاهدته وهو قابع فى مكانه، حيث يندمج النص والصورة والفيديو والصوت فى عملية الإنتاج والعرض فى عملية اتصالية مباشـرة بـين المتلقـى والمرسل، شكلت وفقًا لتعبير «فيدال» Vedel ما يسمى «مجتمع بدون وسيط».
وقد جاءت جائحة «كورونا» لتفرض بدورها نمطًا جديدًا للحياة وتزيد الأمور تعقيدًا، وتهيئ الأجواء أكثر للبيئة الاتصالية الجديدة التى تكرس لعزلة الفرد، خاصة أننا صرنا مهددين دومًا بعزل جديد، وهكذا نتبين أن ميزة التفاعلية الحية التى تفرد بها المسرح أصبحت فى هذا السياق نقطة ضعف وقوة فى آن واحد، وصارت مهمة المسرح أصعب فى الحفاظ على جمهوره وجذب جماهير جديدة، ربما يقتضى الأمر أن يكون لدينا مخرج للطوارئ نستطيع أن نلجأ إليه فى عالم أصبح يفاجئنا بمتغيرات غير متوقعة طوال الوقت، حتى أوشكنا نؤهل أرواحنا لاستقبال ديناصور ضخم ربما يأتى لابتلاعنا.
يجب أن تتوافر لدينا الرؤى والسياسات الثقافية المستقبلية الداعمة للمسرح، وعلينا أن نغير عقلية مبتكر المنتج الثقافى وأن نتخلى عن وسائل التسويق التقليدية مستغلين قوة السوشيال ميديا فى التسويق، فنكثف برامج رفع قدرات الفنانين ومسئولى الفرق فى مجال التسويق الإلكترونى، ونوفر منصات إلكترونية مجهزة لتسويق المنتج المسرحى، ونستخدم لغة عصرية مواكبة لطبيعة اللغة الجديدة فى الوسائط الإلكترونية، لغة تدمج الصوت والصورة والنص والتطبيقات الإشارية، تستطيع هذه اللغة أن تصل إلى شرائح أكثر من الشباب والأطفال الذين لا يكادون يفارقون أجهزة الكمبيوتر.
فالمسرح بفضل ميزته التفاعلية الحية هو الفن القادر على خوض هذا التحدى أكثر من غيره من الفنون، إذا استطعنا توظيف سلاح السوشيال ميديا له بدلًا من أن يكون عليه.. وإذا أدركنا أنه فى عمقنا الإنسانى مهما طغت التكنولوجيا فإنه سيظل لدينا هذا الاحتياج الفطرى للاجتماع والاحتفال سويًا، أن نتصافح قبل العرض، أن نشاهد عرضًا مسرحيًا جديدًا معًا، وأن نقف فى نهايته لنصفق بإجلال لفرقة مسرحية قدمت عرضها للتو.