الفن المصرى
فن مصر مثل نيل مصر وأهراماتها.. وقلعتها وشوارعها شىء لا يمكن تقليده، ولا استنساخه، ولا تكراره، وبالتالى لا داعى للقلق عليه.. الفكرة الأساسية أنه أحيانًا تتعالى أصوات بالخوف على الفن المصرى، لكن الحقيقة أن الفن المصرى مثل نهر جارف لا يمكن إيقافه.. يجدد نفسه بنفسه، ولا يتأثر بالجداول الصغيرة التى تخرج منه أثناء مساره والتى تتبدد مياهها فى الأرض، بينما يبقى هو فى مساره قويًا.. عفيًا.. جارفًا، تتجدد مواهبه مثلما تتجدد أوراق الأشجار الخضراء كل ربيع بعد سقوط بعضها فى الخريف وذبول بعضها فى الشتاء.. وبلغة الجيولوجيين فإن الفن المصرى نتاج تراكمات عميقة فى التربة المصرية عبر آلاف السنين، هذه التراكمات صهرتها درجات حرارة عالية وتجارب تاريخية عظيمة، وحضارات متنوعة متتالية، ونفوس محبة للحياة وللون الخضرة الذى فتح عليه المصرى القديم عينيه.. جذور حب المصريين للفن مسجلة على جدران المعابد القديمة، حيث الغناء للآلهة وتحفظها ترانيم الكنائس حتى الآن.. هذا إذا تحدثنا عن فنون الأداء المباشر وليس عن فنون المعمار التى خلدتها آثار مصر الخالدة.. فى الحقول استمر الفلاحون يغنون عبر آلاف السنوات.. وكان هناك فى عصور المماليك مسرح خيال الظل، و«المحبظاتية».. قد يفاجأ الكثيرون إذا عرفوا أن أول مسرح تم تأسيسه فى مصر عام ١٨٦٩.. بأمر من الخديو إسماعيل وكان فى مكان المسرح القومى الحالى، أو هو المسرح القومى الحالى، والمعنى أن أول مسرح فى مصر تم تأسيسه منذ ١٥٢ عامًا.. وهو تاريخ يفوق تاريخ دول كثيرة فى العالم الحديث وفى المنطقة، وقد ظل المسرح يستضيف مسرحيات لفرقة «الكوميدى فرانسيز» الفرنسية حتى ظهر أول عرض مصرى عليه لفرقة «أبوخليل القبانى» عام ١٨٨٥، أى منذ ١٣٦ عامًا كاملة.. وأبوخليل مسرحى سورى جاء إلى مصر فأصبح مصريًا، وتلك خصيصة أخرى من خصائص مصر، التى تغير ولا تتغير، وتؤثر ولا تتأثر، وتفتح أحضانها لكل وافد عليها فتمنحه من روحها وعبقها وشخصيتها فإذا به جزء من الحياة فيها.. وبعد مسرحيات «أبوخليل القبانى» ظهر مسرح «إسكندر فرح» وكان بطله الشيخ سلامة حجازى أول ملحن مصرى على الطراز الحديث وأستاذ سيد درويش الذى هو أستاذ محمد عبدالوهاب، الذى هو أستاذ بليغ حمدى، الذى هو أستاذ عشرات من الملحنين الحاليين، ذرية بعضها من بعض، وسلسال لا ينقطع.. أما فى السينما فقد كانت مصر هى ثانى بلد فى العالم يعرض فيه فيلم سينمائى بعد فرنسا، حيث عرض أول شريط صورة الإخوة لوميير مكتشفى الفن السابع فى ١٨٩٦ فى أحد مقاهى الإسكندرية، بعد اكتشاف السينما بعام واحد، وهو ما يذكرنا بتلك المقارنة الدائمة بين القاهرة وباريس فى تلك الفترة، حيث كانت القاهرة توصف بأنها باريس الشرق وكان ذلك وصفًا دقيقًا للغاية.. بعد هذا العرض ظهر أول فيلم تسجيلى صامت عام ١٩٠٧.. وظهر أول فيلمين طويلين عام ١٩١٧على يد المخرج المصرى محمد كريم، والمعنى هنا واضح كما هو واضح هناك.. أن عمر الفن المصرى عقود طويلة جدًا، لم تتوقف مصر خلالها عن إنجاب المبدعين فى كل المجالات.. وأعظم ما فى الفن الحقيقى أنه لا سعر له.. جرب أن تنفق مليار دولار لكى تحصل على أم كلثوم.. لن تحصل عليها.. ارفع المبلغ لعشرة مليارات دولار.. لن تحصل عليها.. ارفع السقف لمئة مليار دولار.. أيضًا لن تحصل عليها.. لأن هذه الموهبة بنت تراكمات حضارية كثيرة جدًا.. بنت غناء الفلاحين فى الحقول أيام الفراعنة، وبنت قراءة القرآن، وبنت الإنشاد فى الموالد، وبنت النهضة المصرية بعد ثورة ١٩١٩، وبنت محاولة النهضة المصرية عقب ٢٣ يوليو، وبنت الهزيمة التى تحدتها بغنائها فى عواصم العالم، وبنت النصر الذى كانت شريكة فيه مع كل المصريين.. رحلة طويلة جدًا، وتركيبة فريدة جدًا، لا تصنعها كل مليارات العالم، ولا تشتريها كل مليارات العالم.. نفس الأمر ينطبق على كل رموز مصر العظيمة.. هل تريد محمد عبدالوهاب آخر؟ ائت له بأمير الشعراء أحمد شوقى ليعلمه.. هل تريد عبدالحليم حافظ جديدًا؟ ائت له بصلاح عبدالصبور وصلاح جاهين والأبنودى وكامل الشناوى وإحسان عبدالقدوس.. لو تستطيع تفضل.. الباب مفتوح.. ما أريد أن أقوله إن قلق بعض المصريين لا مبرر له إطلاقًا، فلا تنافس بين الفن المصرى وغيره.. ودور مصر أن تشع فى المنطقة والعالم.. وقد عايشت موجات من هذا القلق فى بداية الألفية الثانية، وربما كانت هناك مبالغات فى التعبير عن مخاوف البعض من الاحتكار أو ما إلى ذلك، لكن الحقيقة أن الفن المصرى سار فى مساره، رغم أنه اعترضته موجات كثيرة معاكسة، فقد انسحبت الدولة من مجال الإنتاج بدءًا من السبعينيات، ثم ظهرت موجة معادية للفن عرفت إعلاميًا باسم «اعتزال الفنانات والفنانين» وكانت هناك تفاصيل كثيرة ليس هذا محل ذكرها، ثم ظهرت موجة أخرى باسم «سينما المقاولات» ترتكز على إغراء الفنانين الموهوبين لتقديم أفلام تصور فى يوم واحد أو يومين، دون إعداد أو تجهيز وبهدف الربح المادى فقط، وأدت هذه الموجة إلى تبديد طاقات عدد كبير من فنانينا الموهوبين، وأساءت بلا شك إلى السينما المصرية العظيمة التى كانت تقدم أعمالًا عالمية تعرض فى كان وبرلين وفينسيا حتى وقت قليل، ثم ظهرت مع بداية الألفية الأنشطة الإنتاجية المختلفة التى سماها بعض الصحفيين محاولات لاحتكار الغناء والسينما المصرية، وكان دافع إثارة المخاوف هو توقيع عقود احتكار مع عدد كبير من المطربين المصريين ثم التوقف عن الإنتاج لهم، وإدخالهم ثلاجة النسيان والإهمال، وكانت دوافع الذين أعلنوا عن قلقهم أنه ظهرت موجة لم يعرفها الوطن العربى من أغانى الفيديو كليب وتصنيع عشرات من نجوم الغناء اللبنانيين تتفاوت حظوظهم من الموهبة، فى الوقت الذى تم فيه تجميد نجوم الغناء المصريين، وربما كان هناك بعض المبالغات فى هذا الاتجاه أو ذاك، لكن النتيجة النهائية أن الفن المصرى واصل مساره، مع فارق لا يمكن إغفاله حاليًا، هو وعى الدولة المصرية بدور الفن، ورعايتها له، وإدراكها أنه إحدى أدوات قوة مصر الناعمة، وأرى الآن موجة من المسلسلات الدرامية المميزة، فضلًا عن اهتمام بالمسرح تتضح ملامحه رويدًا رويدًا، مع نسخة مصرية صميمة من برنامج يتبنى مواهب أبناء مصر.. لذلك أقول إنه لا خوف على الفن المصرى فى أى وقت ومن أى شىء.. مهما كانت التحديات والعوائق.