ليست مجرد حُلم رومانسي
قررت أن أكتب اليوم مدافعا عن إحدى قناعاتي التي لم نعد نجد لها أنصارا كُثر ممن يؤمنون بها أو يدافعون عنها أو يروجون لها . إنها حُلم "الوحدة العربية " ... لن أندهش إن تمتم أحدهم قائلا : " انت راجل قديم أوي ، وحدة إيه اللي بتتكلم عنها دي ؟ ". و بغض النظر عن الهجوم الذي يتعرض له كل من يحاول إحياء فكرة العروبة ‘ إلا أنني لا يمكنني أن أغير قناعاتي أو أخفيها . فإن فكرة الوحدة العربية - رغم ما تمر به الأمة من انتكاسات – تبقى أملا يراود من يحلمون بغد أفضل لكل الناطقين بلغة الضاد . قناعة لا يهزمها موقفٌ لمتخاذل ولا حتى سياسة ينتهجها فرد أو جماعة أو حزب في أي من الأقطار العربية من المحيط إلى الخليج . و رغم ما واجهته فكرة القومية العربية من صدمات أدت إلى تراجع أعداد الموقنين بها ، و خفوت أصوات المؤمنين بحتميتها ، إلا أنها ماتزال حلما جميلا يراود معظم – و لا أبالغ بالتعميم و أقول كل – الناطقين بالعربية .
و رغم هذا اليقين الذي أؤمن به كواحد من 300 مليون عربي على امتداد خارطة الوطن الكبير من المحيط إلى الخليج ، إلا أن عثرات كثيرة تواجهها فكرة العروبة و حلم التكامل العربي . و لعل أكثر ما يعرقل تحقيق هذا الحلم على أرض الواقع ، هو إزكاء الروح الوطنية على حساب فكرة القومية التي تراجعت مع كثرة ما تعرضت له الأمة من انتكاسات تركت في النفوس ندوبا و في القلوب جراحا و انتهت إلى الكفر بالقناعات . فمع مرور السنوات ، تغيرت سياسات و تبدلت وجوه و طرأت على الساحة الدولية أفكار و مسلمات بعد أن كفر بها أصحابها و تراجعوا عنها .
و تاريخيا مرت فكرة الوحدة العربية بانتكاسات كثيرة تسببت فيها مخططات خارجية أحيانا ، و سلوكيات سياسية من داخل الوطن الكبير ذاته في أحيان أخرى . و للمتبحر في قراءة التاريخ أن يراجع دفاتره ليكتشف كم من المرات كادت الفكرة أن تتحول إلى واقع ، ثم ما لبثت أن تعرضت لصدمات عنيفة - من الداخل و من الخارج - انتهت بها إلى انتكاسة تؤدي إلى تراجعها و خفوت الحلم العربي عقودا طويلة قبل أن يعود ليلح على الجميع من جديد .
و قد اعتدنا أن يلعب بعض المتربصين بالأمة ألاعيبهم كلما بدا في الأفق نوع من التقارب الذي سينتهي بتحقق الحلم . و اليوم – و كالعادة - تمر الأمة بكابوس من هذا النوع . ففي كل بقعة على امتداد خريطة الوطن الكبير تجد جرحا نازفا ، و بقعة للصراع ، و حيوانات متوحشة من آكلي الرمم ينتظرون موت الفريسة للانقضاض عليها و التهامها . و للأسف الشديد تطورت أسلحة المنخرطين في هذا الصراع ، ليتم استخدام القوة الناعمة كإحدى أدوات المعركة "الدونكيشوتية " .
و المحزن حقا أن هذه القوة من أغنية و فيلم و مسلسل و قصيدة و مقال و رواية و لوحة تشكيلية و حديث إذاعي ، كانت تستخدم لدعم فكرة الوحدة و مناصرة الداعين إليها و تغيير قناعات غير المتحمسين لها . و لكن بعضا من ممثلي هذه القوة الناعمة و رموزها أصبحوا يمثلون اليوم طعنة في ظهر الفكرة و الهدف السامي . فقد انجرفوا ليكونوا إحدى أدوات المعركة ضد العروبة و نسوا تاريخا طويلا تجسد في أفلام مثل " جميلة بوحيرد " لماجدة الصباحي ، و في أغنيات مثل رائعة أم كلثوم " بغداد " ، أو رائعة فيروز " مصر عادت شمسك الذهب " ، أو قصيدة جميل صدقي الزهاوي : إن العروبة ليس تأمن * غارة المستعمرينا ... إلا بوحدتها ونعم * وسيلة المتفكرينا . أو مسلسلا لمحمد صبحي مثل "فارس بلا جواد "، أو منصة إعلامية وحدوية كإذاعة صوت العرب بشعارها التاريخي " أمجاد يا عرب " .
و قد بذلت مصر جهدا كبيرا على مدار تاريخها للم شمل الأمة ، و خاضت في سبيل هذا حروبا كثيرة و واجهت تحديات أكثر ، و رغم ذلك ظلت رافعة لواء العروبة بثقافتها و بفنها و بإعلامها الواعي . و استمرت إذاعة صوت العرب منبرا يصدح فيه كل أصوات العروبيين . و مع الهزائم المتتالية لفكرة القومية العربية و تراجع حلم الوحدة ظلت هي المنصة الإعلامية الوحيدة التي تخلص لمبادئها و تدافع عنها رغم تندر البعض حينا و نقص التمويل المالي في أوقات كثيرة. بل إن أبناء صوت العرب و المنتسبين لها ظل لديهم حلم أكبر بأن يواكبوا العصر لتتحول منصتهم من منصة مسموعة فقط ليضاف إليها خدمة مرئية و أخرى صحفية الكترونية ، شبيهة بما فعلته هيئة الإذاعة البريطانية لاحقا .
و أتذكر أن الاحتفال باليوبيل الذهبي لصوت العرب في عام 2003 شهد اقترابا من تحقيق هذا الهدف ، لكن تلاحق الأحداث السياسية محليا و عربيا ذهب بالفكرة أدراج الرياح . و لو أن حلما كهذا كان قد تحقق في حينه لوجدنا اليوم منصة مرئية تصد عن العروبة مكائد المتربصين بها و من بينهم بعض أهلها – للأسف الشديد – و آخرين ممن تحركهم أحقاد سياسية يغذيها رغبتهم ف تراجع الدور القومي لمصر ، و تنافس قديم على دور الزعامة للأمة .
و مع سعي البعض – من هنا و هناك - للعبث بتاريخية وحتمية وقوة العلاقات بين الأشقاء العرب ، يتعرض الحلم العربي للتراجع كلما اعترضته أزمة عابرة . و هذا أمر ليس بالجديد فقد تعرضت له فكرة القومية العربية مرارا . لكن العقلاء ممن يدركون قيمة الفكرة و سموها يترفعون دائما عن الانزلاق نحو مستنقع الخلافات الذي لن يفيد أحدا سوى أعداء الأمة . فالوعي الوعي و الحذر الحذر من الانسياق خلف الجهلاء ، وعلى الواعين في كل أزمة أن يترفعوا عن الولوج إلى ساحة معركة – كلامية – سيخرج الكل منها مهزوما ، و تتعرض معه فكرة الوحدة العربية - أو قولوا التكامل العربي – لانتكاسة جديدة ، لكنها حتما لن تموت .