«المواجهة والتجوال».. المسرح فى خدمة التنمية
فى جميع ربوع مصر، المسرح يذهب إليك حيثما تكون، المسرح أبوالفنون وأكثرها قدرة على التأثير فى الفكر الإنسانى، وإحداث التغييرات الاجتماعية، لأنه يحدث أثره من لحظة تفاعل مباشر مع الجمهور.
ففيه ننخرط جميعًا شعوريًا، باختلاف مراكزنا الاجتماعية وثقافاتنا، مع العمل الفنى، ونسمح له بإعادة تشكيل عالمنا ووعينا، ولا يمكن بأى حال من الأحوال لأى من كان، أن يشاهد مسرحًا حقيقيًا ويخرج من العرض المسرحى.
هذا الأثر التنموى هو ما يُغرى كثيرًا من المؤسسات الثقافية والتعليمية فى مختلف أنحاء العالم لاستخدام المسرح كوسيلة تعليم وتنمية، ويجعلنا نظن أن المسرح أكثر من غيره من الفنون، يجب تضمينه كرافد أساسى فى كل مبادرات الدولة للتنمية الشاملة والمستدامة، التى تستهدف رفاهية المواطن، وحصوله على نصيبه المستحق من التعليم والصحة والثقافة.
ربما هذا الإدراك لأهمية ودور المسرح التنموى من جانب مؤسسات الدولة المصرية، هو ما جعلنا نعاين مؤخرًا النتائج المهمة لمشروع «مسرح المواجهة والتجوال والمسارح المتنقلة»، التى أطلقتها وزارة الثقافة فى ٢٠١٨، وجاءت فى إطار بحث وزارة الثقافة عن استراتيجيات وآليات لسد الفجوة الجغرافية وتحقيق العدالة الثقافية، فى عدد كبير من قرى ونجوع مصر التى لا تتوافر بها بنية تحتية للثقافة. بدأ الأمر بتأسيس فرقة مسرح «المواجهة والتجوال» ومديرها محمد الشرقاوى، التابعة للبيت الفنى للمسرح «قطاع الإنتاج الثقافى»، ووضع خطط لتجوال العروض المسرحية ذات الأثر التنويرى فى مختلف محافظات مصر، مع إعطاء الأولوية للمناطق النائية والمحرومة.
ويبدو أن ما تم لمسه على أرض الواقع من تعطش واحتياج الجمهور من مختلف الأعمار فى تلك المناطق للمسرح هو ما حدا بوزارة الثقافة أن تأخذ خطوة أوسع من سابقتها، حين بادرت الهيئة العامة لقصور الثقافة برئاسة المخرج المسرحى هشام عطوة، بتصنيع ٦ مسارح متنقلة بالتعاون مع وزارة الإنتاج الحربى، لتكون تلك المسارح بمثابة حل مبتكر وفعال للوصول إلى مواطن ومكامن الخطر ونشر الفنون والثقافة بوصفها سلاحًا فعالًا فى مواجهة العنف والتطرف.
وشاهدت بعض الفيديوهات التى تصور رد فعل الجمهور على عروض ذلك المسرح، وكانت المرة الأولى للكثيرين الذين يشاهدون فيها عرضًا مسرحيًا، وبدا تأثرهم بذلك إيجابيًا، وهم يأملون ألا تكون الأخيرة.
وكان الإقبال الكبير الذى وضع المنظمين فى تحد كبير، بسبب الإجراءات الاحترازية الخاصة بمواجهة فيروس «كورونا»، دليلًا على تعطش هذا الشعب للجمال، وعلى كذب وزيف مقولة: «الجمهور عايز كده»، لأن الجمهور حين يجد الفن الجيد يذهب إليه ولا يريد سواه.. وعروض مسرح «المواجهة والتجوال» وأنشطة المسارح المتنقلة خير دليل على ذلك.
وشملت أنشطة المسارح المتنقلة أنشطة أخرى بخلاف المسرح، مثل الورش والندوات، ومن هنا أدعو رموز الفن والعلم والثقافة للمشاركة فى فعاليات وأنشطة المسارح المتنقلة، وعقد لقاءات مع شباب المناطق المهمشة والمحرومة، لمنحهم مصادر للمعرفة والإلهام.
ويجب أن نستثمر هذا الوعى الفارق بأهمية الثقافة كأساس فى حراك الدولة المصرية فى اتجاه التنمية الشاملة، وأدعو وزارة الثقافة إلى مضاعفة أعداد المسارح المتنقلة، وتسليم بعضها على سبيل الدعم إلى فنانى المسرح الذين لديهم مشاريع وفرق فنية جادة خارج الإطار الحكومى، لتكون بمثابة منفذ لهم لتقديم فنونهم وفرصة لمشاركتهم فى الضلوع بواجبهم فى هذا الحراك التنموى مع زملائهم العاملين بمسرح الدولة.
وأخيرًا ينسب الفضل فى هذا النجاح إلى كل مسئول بوزارة الثقافة شارك فى تيسير وتسهيل عمل تلك المبادرة المهمة، وعلى رأسهم وزيرة الثقافة المصرية، الفنانة إيناس عبدالدايم، كما ينسب إلى كل فنان تكبد صعاب السفر والتنقل، وتكبد عناء الرحلة ومخاطرها، من أجل أن يقوم بمسئوليته فى نشر الجمال فى جميع ربوع مصر.
ولا أجد كلمات أكثر تعبيرًا عن هذا مما عبّر عنه أحد مسئولى الأمن الكبار عقب انتهاء عرض «رحلة سعيدة»، إخراج محمد مرسى، ضمن عروض مسرح «المواجهة والتجوال» فى محافظة الإسماعيلية، فقد توجه إلى أعضاء الفرقة، وقال لهم «إن وقوفكم هنا على هذه الخشبة لتقديم مسرحكم على هذا النحو لا يقل تمامًا عن وجود المجند أو الضابط فى الجبهة أو فى الميدان الداخلى».