والجماد أيضًا يهتف.. يا حبيبتى يا مصر
طيلة عمرى أنظر إلى الطقوس التى يمارسها أهلنا البسطاء فى الصعيد والأحياء الشعبية بتقدير كبير.. يخرج علينا البعض أحيانًا بمقولات متعجرفة ضد هذه العادات وقد يتجاوز الكثيرون أحيانًا ويكفرونها.. إلا أننى أرمى كل ذلك وراء ظهرى وأستمر فى محبتى لما أراه منذ كنت طفلًا ولا أزال.
بهذه الروح سافرت إلى قريتى لحضور طقس شعبى أعرفه ويعرفه أهلى جيدًا حتى وإن لم يدركوا أنه موجود منذ آلاف السنين.. توفيت أمى منذ أربعين يومًا ولم أستطع حتى هذه اللحظة تخيل أنها رحلت.. أرفض الفكرة من الأساس.. وحينما وصلت إلى بيتنا فى القرية.. بيتها.. لأول مرة منذ أربعين سنة وهى لا تجلس فى انتظارنا أنا وإخوتى.. أدركت أنها قد لا تكون بخير.. لم أستطع الدخول إلى حجرتها مباشرة كما كنت قد تعودت.. يومان كاملان وأنا لا أجرؤ على فعل ذلك.. وأنتظر أن تعود من زيارة جارة لها أو عيادة الطبيب فى أى وقت.
مشاعرى المصدومة هذه جعلتنى أتجبر على البكاء.. وأبدو قاسيًا.. أمام نفسى وكل من جاء لتعزيتى.. أتصرف بشكل روتينى تمامًا.. حتى وأنا أستقل السيارة فى الطريق إلى قبرها للمشاركة فى طلعة أول رجب وأداء طقوس «الأربعين».. لم أشعر بأننى ذاهب إلى بيتها الجديد.. فقط تذكرت أن ذلك الطقس.. أحدهما فرعونى تمامًا.. والآخر إسلامى كما يزعمون قد حلّا فى لحظة واحدة.. وكلاهما لا يثير أى حيرة أو اهتمام لدى من يذهب ويجىء.
أربعون ليلة مضت.. إذن هى هذه الليلة التى كان قدماء المصريين يقومون فيها بتحنيط الميت، لأنهم يعتقدون أن الروح الآن تفارق الجسد.. ولذلك فهو يحتاج إلى الحفظ حتى يأتى الموعد الذى حدده الإله لتحل من جديد فى ذلك الجسد روحه المغادرة إلى دنيا الخلود.
القُرص التى لم نعد نصنعها الآن فى البيوت.. وتولت الأفران الحديثة القيام بمهام النساء، ما زالت جزءًا مهمًا من ذلك الطقس.. لا يعرف إخوتى البنات وأطفالهن أن تلك القرص التى يقومون بتوزيعها رحمة ونور.. صنعها أجدادنا أول مرة على شكل الشمس المدورة تقربًا لإله الشمس «آتون».
سرحت فى الأمر بجملته وأنا على محطة قطار العسيرات التى لم أشاهدها منذ زمن طويل.. فقد أصبح من حق سكانها أن يفرحوا الآن بتوقف القطار المكيف على رصيفها.. كان هذا حلمًا عندما كنا نذهب إلى المدينة ونعود للدراسة.. المحطة نفسها تم تطويرها.. أرصفة نظيفة وعمال يروحون ويجيئون ومحطة آلية لقطع التذاكر.. وقطارات متعددة تنقل الأهل قادمين إلى بيوتهم أو راحلين إلى بلاد خلق الله.
لفت نظرى أن مبنى المحطة الذى تم تجديده وإضافة مبانٍ أخرى له.. أقيم على الطراز الفرعونى.. أو بمعنى أدق.. المصرى القديم.. شعور ما بالونس مع تلك المبانى.. هو نفس الشعور الذى تحسه لو تأملت شكل مقابرنا فى الصعيد.. فهى ليست مجرد كوم تراب.. لكنها درجات متتالية.. أخذت شكل الأهرامات الصغيرة.. وأظنه من تأثير العمارة المصرية القديمة أيضًا وبسبب الإصلاحات الكثيرة التى تجرى على قضبان السكة الحديد التى يزيد عمرها على المائة عام.. توقف القطار فى أكثر من محطة.. لم يكن مقدرًا له فى الرحلة أن يفعل ذلك.. لكنى فهمت من العمال فى القطار أن عملية تغيير كاملة تتم فى «سنافورات القطار ووحدات التحكم»، وأن الفلنكات يجرى تغييرها فى كثير من الأماكن بطول الطريق، وهو الأمر الذى يؤدى إلى تأخير متوقع فى مدة أى رحلة. لكن الجميع يعرف أن هذا سينتهى قريبًا، فالمئات من الفلنكات الأسمنتية الجاهزة يجرى تركيبها بجوارنا.. والملاحظة أن كل المحطات التى توقفنا فيها من العسيرات وحتى محطة الجيزة جرى تطويرها ودهانها وإضافة مبانٍ جديدة لها.. الملاحظة العابرة من رفقاء القطار.. أنه رغم إضافة قطارات جديدة من بينها الروسى والإسبانى والمميز، إلا أن السوق السوداء لبيع التذاكر ما زالت نشطة بل زادت فى بعض الأماكن.
المهم.. فى أحد توقفات القطار الطويلة.. اضطررت إلى ترك مقعدى والوقوف فى الطرقة.. وكان أن جاء فى مواجهتى شابان من ذوى الهمم.. لا يتحدثان بلغتنا، يتحدثان بلغة الإشارة.. أحدهما أشار لى إلى عينيه بما يعنى تساقط دموعهما، ففهمت أنه يسألنى عن محطة «العياط».. فأخبرته بالإشارة وتمنيت أن يفهمنى بأنها لم تأت بعد.. وفهم الفتى العشرينى وبدا على وجهه الزعل.. سألته لماذا؟.. فأشار إلى شعره وقام بنكشه، ثم إلى دائرة تشبه الكرة.. عرفت أنه يقصد أنه مستعجل يريد أن يلحق بمشاهدة مباراة كرة القدم بين مصر والكاميرون ومشاهدة محمد صلاح ذى الشعر المنكوش.
أخرج تليفونه المحمول وأقرأنى رسالة من شقيقه ينتظره فى القاهرة.. ويريد أن يعرف إلى أين وصل القطار وطلب منى أن أكتب له.. فكتبت.. ورد شقيقه بأن أرسل عنوانه فى المقطم.. فأخبرته ففرح جدًا ثم رفع يديه مع أذان العشاء الذى أصبحنا نسمعه من ميكروفونات القرية التى توقف فيها القطار.
سألنى عن مكان يغتسل فيه ويتوضأ لأنه يريد أن يدعو لمصر وفريقها.. يريد أن يدعو لصلاح ورفاقه بالفوز.. ثم أشار إلى أننا سنفوز بثلاثة أهداف بإذن الله.. ورفع يده إلى السماء قبل أن يذهب إلى حمام القطار ويتوضأ ويعود ليفرش كرتونة على أرض القطار بجوارنا ويصلى.
عاد من صلاته.. ليكمل حديثه الصامت عن الكرة بإشاراته التى فهمها كل من وقف بجوارنا فشاركونا الحديث.. هو يخاف من الحكم أسود البشرة.. يخاف من اللاعبين الأفارقة الذين يتعمدون إصابة لاعبينا.. لكنه ذكرنى مجددًا بأننا سنفوز وبالثلاثة.. فابتسمت وأنا أودعه على محطة الجيزة مترجلًا ليلحق بمباراته ومثله أفعل لأجلس وسط جيرانى على المقهى الشعبى الذى تعودت الجلوس عليه أسفل منزلى فى الحى الشعبى الذى أسكنه.
نفس المشاعر وجدتها.. ترقب غير عادى.. وحماس غير عادى.. وهتاف هستيرى مع كل كرة أو فرصة ضائعة حتى جاءت ضربات الجزاء واحتبست الأنفاس ومع صافرة النهاية كان هتاف الجميع.. زملكاوية وأهلاوية وبدون لمصر.. مصر فقط.. لحظتها تذكرت صديق القطار الذى صلى لأجلها ليفوز فريقها بالثلاثة.. ودمعت عيناى لأول مرة منذ عدت من عزاء والدتى بغزارة لا أعرف سرها.. إلا أن كل شىء حولى يهتف للأم التى لا ترحل من مشاعرنا أبدًا.. مصر.. التى يهتف باسمها الجميع حتى الجماد.