رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التحديث بالقوة

لا مفر من أن نصارح أنفسنا بأن وضع المرأة فى مجتمعنا ما زال بائسًا، هذا البؤس هو نتيجة عقود من التدين المغلوط الذى كان يحط من شأن المرأة ويستهدفها ضمن استهدافه الفئات الأضعف فى المجتمع، وكان نتيجة ردة حضارية روج لها بعض مشاهير الدعاة، أدت هذه الردة إلى تراجع المرأة المصرية عن مكتسبات كانت قد حققتها منذ خلع النساء الرمزى للنقاب فى مظاهرة ١٩١٩ الشهيرة.. تعززت هذه المكاسب بقيام ثورة ٢٣ يوليو التى عززت الحقوق السياسية للنساء ومنحت المرأة حق الترشح للبرلمان، «كانت راوية عطية نائبة الجيزة أول امرأة تنضم للبرلمان عام ١٩٥٦، وعينت أول وزيرة فى تاريخ مصر (د. حكمت أبوزيد ١٩٦١)»، ووظفت أعدا كبيرة من النساء اللاتى تعلمن فى موجة التوسع فى التعليم التى شهدتها مصر بعد الثورة.. لكن هذا التقدم فى أوضاع المرأة المصرية سرعان ما تحول لانتكاسة بعد التغيرات التى شهدتها مصر فى السبعينيات، وتم تعميم نمط من التدين المغلوط الذى يحض على الانتقاص من كل من هو ليس «ذكر- مسلم- سنى».. فالنساء ناقصات عقل ودين، وشركاء الوطن كفار وذميون، والشيعة كفرة وخارجون على الملة «بالمخالفة لرأى الأزهر الشريف»، وتم استهداف النساء تحديدًا بسلاسل من شرائط الكاسيت تخصص فيها عدد من مشاهير دعاة هذه التيارات المتطرفة ذات الفهم البدوى للإسلام، ورغم كل جهود الإصلاح الفوقية مثل تأسيس المجلس القومى للمرأة وغيره من إجراءات شكلية إلا أن التطرف كان يضرب المجتمع بعنف وتتدهور معه أوضاع المرأة المصرية بشكل عام، ووصل الأمر إلى ذروته بوصول جماعة الإخوان للحكم، وخروج المرأة المصرية لمقاومتها كمكون أساسى لثورة ٣٠ يونيو وما أعقب ذلك من سلسلة إصلاحات لأوضاع المرأة المصرية، سواء على مستوى اللغة السياسية لرئيس الدولة تجاه المرأة المصرية، أو على مستوى احتلال النساء ربع مقاعد الحكومة، أو النصوص الدستورية التى أفسحت مكانًا غير مسبوق للنساء فى المجالس النيابية والهيئات القضائية، لكن كل هذه الإنجازات العظيمة تبقى للأسف إصلاحات فوقية لم تصل بعد إلى عمق الثقافة الشعبية التى تتحمل فيها المرأة المصرية صنوفًا من الضغط والاضطهاد جاء الأوان لإيقافها أولًا، وتغيير الثقافة التى تؤدى إليها ثانيًا.. ولعل أول ما يجب أن نسعى لتغييره بشجاعة هو مفهوم «الشرف» فى المجتمع المصرى.. يجب أن نملك الشجاعة لنقول للناس إن شرف الرجل ليس مرتبطًا بالسلوك الجنسى لابنته أو أخته أو كل النساء تحت ولايته، وإن الشرف مفهوم عقلى وأخلاقى يتعلق بالتزام الإنسان بأخلاقه وعهده وأمانته فى عمله وليس أى شىء آخر.. إن سلسلة الحوادث المأساوية للفتيات اللاتى خضعن للابتزاز فى بعض أنحاء مصر تقودنا إلى فهم ذلك الوضع المأساوى، حيث يقوم بعض معدومى الضمير باستغلال صغر سن الفتيات أو حاجتهن العاطفية لإقامة علاقات معهن، وباستغلال تطور التكنولوجيا وسهولة التصوير تُلتقط صور خادشة لهؤلاء الفتيات لإجبارهن على ممارسة علاقات بغير رضاهن تدخل فى نطاق الاتجار بالبشر، وحين يرفضن يتم التشهير بالفتيات فى مجتمع لا يرحم، ولا يعترف بحق النساء فى الخطأ، ولأن ثقافة الشرف السائدة تنبئ الفتيات بأنهن سيواجهن الموت على يد الآباء والإخوة وذكور العائلة فإنهن يسارعن للانتحار، أو يهرب بعضهن ليضعن فى دوامات الحياة القاسية.. والمتهم الحقيقى هو ثقافة المجتمع، التى تحول الأسرة من حصن أمان إلى أداة ضغط، وتتعاطف مع الذكر الذى صور نفسه فى علاقة مشينة وتصم الأنثى التى فضحها رغم أنه طرف فى نفس العلاقة.. وليست هذه الحوادث سوى صنف واحد من صنوف المتاعب التى تتعرض لها المرأة المصرية بفعل الفهم الدينى المغلوط أو حتى الصحيح.. حيث يظن بعض الأزواج أن من حقهم الاعتداء على زوجاتهم بحجة إباحة الإسلام ضرب الزوجة أو الأبناء، والحقيقة أن الضرب عقوبة غير آدمية، وأنه لا يوجد شخص سوى يُقدم على ضرب زوجته أو أبنائه وإلا لكان الرسول «ص» قد ضرب زوجاته أو بناته وهو ما لم يثبت أبدًا ولا يليق حتى أن نفكر فيه، إن الضرب هو سلوك يرتبط بنمط الشخصية «السادية» التى تستمتع بتعذيب الآخرين، وبمجرد أن يبدأ يدخل صاحبه فى حالة من الجنون المؤقت تجعله يتمادى فيما يفعل بعد انفجار مخزون العنف داخله أو نتيجة رد فعل الضحية.. ولعل هذا يفسر لنا ما نقرأه فى صفحات الحوادث عن توجيه القاتل عشرات الطعنات لضحيته، رغم أن طعنة واحدة أو طعنتين تفيان بالغرض، لكن البدء فى العنف يتسبب فى حالة جنون مؤقت لا يفيق منها صاحبها إلا وقد أجهز على ضحيته، ولا شك أن قانون العقوبات لدينا يعاقب على ضرب الزوجات وإن كانت المادة ٦٠ من الباب التاسع من قانون العقوبات تستخدم فى الدفاع عن الأزواج والآباء الذين يضربون زوجاتهم وبناتهم وهى تنص على عدم عقاب الجانى إذا كان يستخدم حقًا كفلته له الشريعة أو إذا كان حسن النية!! والحقيقة أن الواقع الاجتماعى لدينا معقد، وكثير جدًا من الزوجات يؤثرن عدم شكوى الزوج بشكل رسمى لأن حبسه سيؤدى إلى ضياع الأبناء والزوجة نفسها التى غالبًا ما يكون الزوج هو مصدر دخلها الوحيد! والحل هو التوسع فى لجان فض المنازعات مع منحها سلطة عرفية تتمثل فى تغريم الزوج ماديًا فى حالة ضربه زوجته ومنحها قيمة هذه الغرامة، وهى طريقة عرفية معروفة فى الشارع المصرى لفض النزاعات، حيث يطلق على الغرامة التى يدفعها المخطئ «تأديب» وهى كذلك بالفعل بالنسبة لمعظم المصريين، لا بد أيضًا من تبنى خطباء المساجد مثل هذه المفاهيم الاجتماعية وتقديم تفسيرات إنسانية وتقدمية تساعد على تغيير النظرة الرجعية للمرأة التى تمت مراكمتها عبر خمسة عقود لأسباب لا تخفى على أحد، ولا بد من تغييرات جذرية فى مناهج التعليم تتبنى مفاهيم أكثر وضوحًا وجذرية فيما يخص حقوق المرأة ومفهوم ولاية الرجل عليها ومعنى الشرف كقيمة أخلاقية يتحلى بها الرجل والمرأة معًا ولا تقتصر على المرأة فقط، إن سلوكيات مثل التحرش والابتزاز والتشهير وضرب الزوجات والبنات والختان والقتل من أجل الشرف والإجبار على الزواج، هى كلها صنوف من العنف والتمييز ضد المرأة تنبع من المجتمع نفسه ولا نملك إزاءها سوى أن ندعو الدولة لإعلان الحرب عليها بشتى الطرق والوسائل لأنه فى حالة مجتمعنا الذى تعرض لمؤامرة قادته نحو التخلف بقوة المال والسياسة، فإننا لا نملك سوى الرد بالتحديث بالقوة والردع.