كيف بدأت حضارة مصر قبل أن يبدأ التاريخ؟
في أحد الأيام المبهجة حين أطلقت مصر موكب المومياوات الملكية في مشهد مبهر للعالم ذكر أحد المذيعين أن مصر بدأت حضارتها قبل أن يبدأ التاريخ، كانت الجملة صادمة لمجموعة من أصدقائي من جنسيات مختلفة، ورغم أنني لم الحظ أي غرابة، لكنهم اندهشوا (كيف تبدأ حضارة قبل التاريخ نفسه؟) وكادوا أن يحولوا الموضوع لسخرية مجانية.
اضطررت حينها أن اشرح لهم فكرة التدوين وكيف أن التاريخ لكي يكون تاريخا يجب أن يدون بشكل منتظم من خلال نظام سياسي له مؤسسات منظمة ومسؤولة، فإذا ما توفرت هذه الشروط وبدأت عملية التدوين دون انقطاع نستطيع أن نقول أن هناك (تاريخ) لهذه البقعة من الأرض ويمكن أن يلمسه ويتعرف عليه الناس في المستقبل، ولما كانت مصر أقدم دولة في التاريخ فقد تأسست من قطرين ثم توحدت وبدأت تدوين تاريخها ، وفي هذا الوقت -على حد المعلومات المتوفرة - لم تكن هناك دولة ذات معالم وأركان واضحة في جميع أرجاء الأرض غيرها ولم يكن التدوين المنتظم متحققا غير في آلياتها وفنونها ومن خلال مؤسساتها ، ومن ثم فقد بدأت حضارة مصر قبل أن يبدأ التاريخ، وحين بدأ المصريون في التدوين والذي نراه قطعا في هذه الآثار الممتدة على مدى البلد بأكمله، بدأ التاريخ.
عند هذه النقطة المركزية تكونت الحضارة المصرية التي استمرت في زخمها كانعكاس لصلابة وعمق تكوينها الأول، وبمرور الحقب والأزمنة صقلت هذه الحضارة نفسها واستمرت في إشعاعها وتطورها وتفوقها قياسا على الحضارات حولها.
بالطبع شهدت فترات انتكاسات وانهيارات كبيرة مثل أي حضارة، وقد يكون بريقها الأصلي ليس لماعا مثل السابق من القرون، لكنها في العصر الحديث ورغم فترات الاحتلال والاهتزاز والغموض ظلت منارة ثقافية ولو في منطقتها على أقل تقدير، وكذلك أصبحت كالمعلم الذي يستفيد من رسوخ وصلابة تكوينه من حوله.
خرطوش الملك مينا موحد القطرين
في العصر الحديث (تقريبا منذ العام 1900م) ارتبطت مصر فورا بالمدنية والفنون الحديثة والعلم والبناء والصناعة والتطور، فيما كانت المنطقة حولها في الأغلب الأعم تعيش في انفصال تام عن هذه الحركة التطورية العالمية، لذلك حافظت مصر على مكانتها كمصدر إرشاد وتعليم وتثقيف ومساعدة ودعم للمنطقة حولها في كافة المجالات، ولعل موضوع بسيط مثل أن مصر كانت تتولى كسوة الكعبة سنويا يوضح الفكرة من التميز الذي حققته مصر.
يستفز المصريون حين تنحصر رؤية الآخرين تجاههم بأحداث مؤقتة هنا أو هناك مثل التفوق المميز والجيد لبلد ما في الفعاليات الثقافية أو الاقتصاد أو الفن أو حتى كرة القدم متجاهلين التاريخ العميق والصلابة السياسية والاجتماعية المحكمة والقوة البشرية الموهوبة والفنون الراسخة والتنوع البشري الخلاب ..... الخ
بالطبع العالم يتغير وقد تكون الخريطة السياسية أو الفنية أو الاقتصادية تتغير بالتالي، لكن تظل مصر محافظة على مكانتها، ليس لأنها تتحدى الآخرين، بل لأنها تدعمهم وتساعدهم، ولأنها تملك زمام القوة الخشنة والقوة الناعمة والإمكانيات الكبيرة والبعد التاريخي والثقافة الراسخة.
إذا أردت أن تحافظ على الأمن الإقليمي سياسيا وعسكريا أول من تستعين به هو مصر، إذا أردت أن تصنع فنا يجب أن تمر عبر مصر، إذا أردت أن تصنع ثقافة لن تجد غير مصر عونا لك، إذا أردت أن يسمعك العالم الخارجي والقوى العظمى بآذان صاغية يجب أن تتفق مع مصر.
وهذا الحديث لا يعني الغرور أو التفاخر المارق، بل هي حقائق موثوقة تعني مسؤولية أكبر وهو ما لا ترفضه مصر مهما كانت هناك بعض السلبيات هنا أو هناك.
النصيحة الأكبر هي التعاون الذي يبدأ من هذا المنطلق، وأتصور أن القادة السياسيين أو غيرهم من القادة في المنطقة حولنا يدركون هذه الحالة المتوازنة، أما من يتجاوز ذلك الإطار ويعتقد أن هناك ترتيبات سياسية واجتماعية وثقافية أخرى قد تغير من الخريطة فهذا حقه أيضا ووجهة نظره لكننا نتصور أنها غير واقعية على الإطلاق.