خطورة «عولمة» القيم
فى مشهد خالد من مسرحية مدرسة المشاغبين يعترض الجميل سعيد صالح على سرعة مدرسته فى الإملاء.. فيطلب منها أن تتمهل وهى تملى عليه ما يكتبه، وأن تترك فاصلًا بين كل كلمة وأخرى حتى يستطيع أن يستوعب ما تقول.. ويكرر لها طلبه بينما هى تمليه العبارات الجادة، وعندما يفشل فى إقناعها بالتمهل يقول لها عبارته الشهيرة «أمى بتسلم عليكى وبتقول لك واحدة.. واحدة ».. وعلى ضوء الأزمة الأخيرة التى أثارتها المنصة الفنية الشهيرة، أستعير عبارة سعيد صالح، وأقول لمن يرغب فى توحيد نسق الأخلاق فى العالم.. واحدة.. واحدة.. لسنا فى موقف سعيد صالح بكل تأكيد.. ولا الغرب هو المدرس الذى سيملى علينا ماذا نفعل.. ولكننى استعرت الموقف لأشرح ما أريد قوله.. وما أخشاه أن هناك موجة جديدة من «الغشومية» الغربية فى التعامل مع المنطقة العربية والإسلامية، وهى «غشومية» ذات حلقات متصلة لم تؤد سوى لكوارث مختلفة، كارثة تلو كارثة.. ففى بداية السبعينيات قرر الغرب أن دعم المتطرفين المتأسلمين هو أفضل طريق لصياغة مستقبل المنطقة وحمايتها من الشيوعية، وهو كما ترى حل «غشيم» دفعت المنطقة والعالم والغرب نفسه ثمنه وما زالت تدفع حتى الآن.. وتكررت نفس «الغشومية» فى التعامل مع التمدد السوفيتى فى أفغانستان حيث اخترع الغرب وحشًا يسمى بن لادن ورجاله، ثم جلس يبكى على ضحاياه فى تفجيرات نيويورك وإغراق المدمرة كول وغيرهما.. ثم واصل الغرب «غشوميته» المفرطة فقرر اجتياح بلد عريق مثل العراق وتسريح جيشه، وتخريب اقتصاده، فقاده هذا إلى ظهور الزرقاوى وداعش وموجات إرهاب لا أحد يعلم متى تنتهى.. وهل يريد لها الغرب أصلًا أن تنتهى؟! وأخشى أننا أمام موجة «غشومية» جديدة يسعى فيها الغرب لتوحيد معيار السلوكيات الشخصية والجنسية بين سكان دوله وبين سكان العالم.. وفرض قيم وقناعات الحضارة الغربية على أبناء الحضارات المختلفة وعلى رأسها العرب والمسلمون باعتبار أن الثقافة الإسلامية من أكثر الثقافات التى شهدت صعود نزعات متطرفة، وأصولية، وماضوية خلال نصف القرن الماضى «بفعل الغرب نفسه»!.. هذه المحاولة الغربية «غشيمة» لأنها تغفل ضرورة التطور الاقتصادى والاجتماعى للمجتمعات والذى ينعكس بعد ذلك على سلوكيات الأفراد ووعيهم بحريتهم الشخصية، فالغرب لم يصل لمنظومة السلوكيات لديه بين يوم وليلة.. ولكنه تطور عبر قرون، وكان لديه شىء اسمه «حزام العفة» وهو حزام حديدى كان الأوروبيون يضعونه على خصور النساء حتى يضمنوا عدم خيانتهن لهم أثناء السفر!! ثم تدرج فى احترام الحريات الشخصية كلما تطور اقتصاديًا واجتماعيًا.. وحتى حقوق المثليين التى هى من المسلمات لدى الغرب حاليًا.. لم تكن موجودة ولا معترفًا بها حتى ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضى، وقد شاهدنا جميعًا الفيلم الذى يروى قصة عبقرى الرياضيات البريطانى «آلان توربنج» الذى قاده التمييز ضد المثليين فى بلده للانتحار.. رغم أنه بطل قومى، استطاع فك الشفرة الألمانية ووضع بذرة جهاز الكمبيوتر، وكان من أسباب انتصار بلاده فى الحرب العالمية الثانية.. لكن «غشومية» الغرب الشهيرة تجعله يفكر أن تغيير المجتمعات يكون بالأمر.. وأنه يستطيع أن يقول للشىء كن فيكون.. وأنه يستطيع أن يتجاهل أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية فى حاجة لفرصة للتطور الاقتصادى والاجتماعى والثقافى قبل أى تدخل لتغيير منظومة القيم لديهم.. وأن أفضل ما يفعله مع مجتمعات مثل مجتمعاتنا أن يساعد الدول الوطنية فيها على قيادة عملية التحديث، وأن يتوسع فى تمويل أنشطة التنمية، والتعليم، وأن يتوقف عن الكيد لهذه الدول.. و«مرازيتها» ليل نهار بتصرفات رمزية سخيفة.. أو بادعاءات حول هذا الملف أو ذاك، وإن هذا وحده هو الذى يسرع بنمو هذه المجتمعات ويحدث فيها التطور الطبيعى تجاه كل شىء.. أما المحاولات «الغشيمة» لتغيير منظومة القيم والأخلاق، فهى تمنح المتطرفين شرعية أكبر، وتجعلهم يلعبون على مخاوف الناس من التغيير، ويقولون لهم «ألم نقل لكم إن الغرب يريد تغيير هويتكم ومسخكم»!! وربما يعلم أرباب «الغشومية» الغربية أو لا يعلمون أن اللعب على هذه المخاوف كان سبب ظهور جماعة الإخوان المسلمين منذ تسعين عامًا كاملة، حيث أقنع حسن البنا بعض المصريين أن الدين فى خطر، وأن حملات التبشير ستبدل دين المصريين، وأن وجود الغرب لدينا لا يرجى منه أى خير لنا.. فكان ما كان مما نعلمه جميعًا.. أما «أغشم» ما يفعله الغرب فى هجمته الحالية أنه يحرج القوى المعتدلة والمطالبة بالإصلاح.. فهى إذا دافعت عن محاولاته إيمانًا بحرية الفكر والفن تلقفها المتطرفون وزايدوا عليها لدى الناس وشوهوا موقفها واتهموها بكل نقيصة.. فيكسب التطرف ويتراجع الاعتدال، وهم إذا هاجموا هذه المحاولات الغربية «الغشيمة» صبوا جهودهم فى مصلحة المتطرفين ودعموا موقفهم، وهو- كما ترى- موقف حرج تسببت فيه «الغشومية» الغربية لا أى أحد آخر.. وهو ما يجعلنا نطالب الغرب بأن «يحل» عنا وينصرف لشئونه، ويطمئن إلى أن أهل مكة أدرى بشعابها، ويؤمن أن كل محاولاته للتدخل فى المنطقة بأى طريقة لم تؤد سوى لكوارث متتالية وهو ما يجعلنا نطالبه بأن «ينقطنا بسكوته» قبل الكارثة القادمة!!