مكتبة ع الترعة
كان صلاح جاهين وطنيًا عظيمًا، ظل يحلم بالنهضة والعدل حتى وجد ثورة يوليو تحقق على الأرض ما حلم به، كان شاعرًا عظيمًا وهب موهبته للحلم المصرى وقتها، فى عام ١٩٦٣ كان كل شىء يبدو رائعًا، كان هناك جهد عظيم على الأرض منعت النكسة مصر من التمتع بثماره، لكن هذا لا ينفى أنه كانت حقيقة.. كانت مصر تتصدر قيادة العالم العربى وتنطلق فى خطة للتصنيع والاستصلاح والتعليم، وتحلم أحلامًا كبيرة.. فى هذه الظروف كتب صلاح جاهين قصيدته «المسئولية» ولحنها كمال الطويل بصوت عبدالحليم حافظ.. كانت قصيدة دعائية لكنها كانت صادقة، كانت بها مبالغة أظن أنها كانت تعبر عن روح ذلك العصر، وأظن أنها كانت أحد أسباب الهزيمة.. كان أحد أوجه المبالغة أن صلاح جاهين فى حلمه بالنهضة العربية كان يحلم بأن تصل الفنون الرفيعة لكل قرية عربية، وأن يصبح الفلاحون من مستمعى الأوبرا ومتذوقى فن النحت، وهى كما نعرف فنون كانت تستهلكها النخبة الأرستقراطية فى مصر قبل يوليو ٥٢.. كان مجرد حلم صادق عبر عنه ضمن أحلام أخرى يقول فيها.. «صناعة كبرى.. ملاعب خضرا.. تماثيل رخام ع الترعة.. وأوبرا فى كل قرية عربية».. كان ذلك حلمًا نبيلًا من مثقف آمن بالناس، وبالغ فى حلمه لهم، ولسبب ما «غالبًا هو المبالغة فى الحلم» كان هذا البيت مثار تندر من مجموعة من حثالة الكتاب المصريين من أعداء الثورة، أو أذناب جماعة الإخوان، أو عملاء هذا البلد الذى كان يعادى عبدالناصر أو ذاك.. وساعد على هذا أن الأمور تدهورت بنا بعد النكسة، وبعد رحيل عبدالناصر متأثرًا بها، لتفتقد قرانا الخدمات الثقافية الأساسية بعد أن كان جاهين يحلم بأوبرا فى كل قرية عربية.. تذكرت كل هذا وأنا أقرأ إعلانًا لمؤسسة «حياة كريمة» يطلب توظيف أمناء لمكتبات تعتزم تأسيسها فى محافظات مصر المختلفة، وقال خبر آخر إنه سيتم تأسيس عشرين مكتبة فى محافظات مصر المختلفة.. بدا لى هذا حلمًا منضبطًا، واقعيًا، متدرجًا، وقابلًا للتنفيذ.. وبدا لى أنه حلم يجسد الدرس الذى استوعبته مصر التى تحلم بالنهضة اليوم، أصبح حلم مصر عمليًا أكثر، وواقعيًا أكثر، يؤمن بسياسة الخطوة خطوة، وبالتدرج على طريق تحقيق الأحلام.. تأسيس عشرين مكتبة تابعة لحياة كريمة خطوة رمزية عظيمة، تقول إن الحياة الكريمة ليست تلبية الاحتياجات المادية فقط، وإن الدولة المصرية تؤمن بأن الثقافة حق من حقوق المصريين، وإنها أفضل وسيلة لمحاربة ثقافة التخلف، وتزييف الوعى، لكن الحقيقة أن لدىّ طموحًا أكبر بكثير من هذه الخطوة، رغم أننى أثق أنه ستتلوها خطوات أخرى، إننى أرى أن المرحلة الأولى يجب أن تضم تأسيس ثمانى وعشرين مكتبة فى ثمانى وعشرين محافظة مصرية، وأن يتم إطلاق مكتبة إلكترونية عملاقة باسم حياة كريمة، تضم نسخًا إلكترونية مجانية لعيون الثقافة المصرية والعالمية، وأن نطلق المكتبة بالمعنى الشامل لها، بحيث تكون مركزًا ثقافيًا شاملًا يضم قاعة المسرح والسينما ومعرضًا للفن التشكيلى، وورشًا للتدريب على الفنون المختلفة، أما الحلم الأكبر فهو أن يكون لدينا بيت ثقافة صغير فى كل قرية مصرية، يحتوى على الكتب الأساسية ومسئول ثقافى مهمته استقبال المواهب من الشباب وتوجيهها التوجيه الصحيح، وربطها بمراكز التدريب فى عاصمة المحافظة أو فى القاهرة، وأرى أنه لا بديل لمؤسسة حياة كريمة عن تبنى فكرة المكتبات المتنقلة، وهى سيارات عملاقة يتم تجهيزها كمكتبات وتتحرك بين القرى والمراكز المختلفة، وقد لعبت المكتبة المتنقلة التى كانت تأتى لنا فى حى شبرا دورًا كبيرًا فى تثقيف الجيل الذى أنتمى إليه، وسدت نقصًا كبيرًا فى عدد المكتبات الدائمة وقتها، وأظن أن هذا النقص قد تزايد عبر الثلاثين عامًا الماضية نتيجة لزيادة عدد السكان، وقلة الاعتمادات المخصصة للثقافة بشكل عام، والظروف الاستثنائية التى مرت بها البلاد بعد ٢٠١١ بشكل أكثر عمومية، إن هذه المكتبات أو المراكز الثقافية هى بمثابة قوة مضافة لقصور الثقافة، التى سيطرت عليها البيروقراطية، وأثقلت بتعيينات زائدة عن حاجتها، وتحكمت فيها طرق عمل بيروقراطية عتيقة، التهمت موازناتها، وانحرفت بمعظمها عن أداء رسالتها، فلم تعد ملائمة للأجيال الجديدثة من المصريين الشبان، المنفتحين على عوالم التكنولوجيا، وفضاءات الإنترنت، وطرق المعرفة الحديث.. وبشكل عام أرى أن خبر تأسيس مكتبات تابعة لـ«حياة كريمة» فى محافظات مصر المختلفة واحد من آلاف الأخبار التى نتابعها على مدى السنوات الماضية تؤكد لنا أننا نسير على الطريق الصحيح، سواء من حيث الرؤية التى تحكم التنمية، أو معدلات إنجاز وتحقيق هذه الرؤية.. والله ولى التوفيق.