على حَسبْ الريح.. ما يودى
شيزوفرينيا ماشى.. هطل ماشى.. اكتئاب محوّر برضه ماشى.. عجيب أمر أهل هذه البلاد هذه الأيام.
لا أتصور أبدًا كل تلك الهوجة من أعراض أى فيروس غريب زارنا فجأة ونحن نتحسس الدفء فى أيام الصقيع هذه.. ما الذى يحدث بالضبط بالله عليكم؟..أنا ماعدتش فاهم حاجة فعلًا.
ما بين يوم وليلة تحوّل أغلب الشعب المصرى إلى نقاد متخصصين فى فن السينما.. فجأة وبلا مقدمات ونحن الذين هدمنا نصف دور العرض فى السنوات القليلة الماضية وحوّلناها إلى مولات ومطاعم وعمارات صماء جرداء لا ذوق فيها.. تحولنا إلى مدافعين عن الذوق العام.. وعن قيم المجتمع التى أهدرتها منى زكى وزملاؤها فى فيلم يذاع عبر منصة مشفرة مدفوعة- باشتراك يعنى- ونحن الذين نشكو ليل نهار من اشتراكات مباريات الكرة بعد أن فشلنا فى سرقتها أو تهكير الترددات التى تذيعها.
كيف لفيلم قرر صنّاعه إذاعته عبر وسيط غير مفتوح للعامة وحددوا سن من هم مسموح لهم بمشاهدته +١٨، يعنى من الآخر اللى رايح يشوفه هيشوفه بمزاجه وبفلوسه.
وبرضه فيلم إيه ده.. ولا مشهد مين ده اللى هيهد أركان المجتمع المتماسك المتدين بطبعه وهيجيب عاليها واطيها.
لا أقف إلى جوار الفيلم ولا أساند صنّاعه ولا أدينهم أيضًا، لأننى ببساطة شديدة لم أشاهده.. كما أننى لست متخصصًا فى شئون السينما من أساسه رغم عملى لمدة عشرين سنة كاملة فى الوسط الفنى وفى النقد الفنى أيضًا.. لكننى أعتبر مجرد الحديث فى أمر لم أدرس تقنياته وتفاصيله وعلومه ليس من شأنى ولا أجرؤ عليه.
ما يعنينى فى الأمر.. أننا حوّلنا الفيلم إلى تريند.. وها هى المرة العاشرة بعد الألف التى تأخذنا فيها حكاية التريند هذه.. سواء كان السبب فيلمًا أو مشهدًا أو مهرجانًا.. أو فستانًا لممثلة أو ما شابه.
لم نتنه بعد من مهزلة موافقة نقابة الموسيقيين على عمل أسطوات المهرجانات بعد تغيير أسمائهم- وكأن المشكلة كانت فى الأسامى- لنصحو على أزمة وهوجة فيلم منى زكى.
ما يحزننى.. أنه فى نفس الوقت.. يحدث على الأرض ما هو أهم بكثير من خناقة الفيلم.. ما يجرى على الأرض ويخص حاضرنا ومستقبل بلدنا وأولادنا تركناه جملة وتفصيلًا ورحنا نفتش عن الفيلم المقتبس من فيلم إيطالى.
منذ يومين فقط.. عقد رئيس البلاد اجتماعًا مهمًا.. مع عدد من الوزراء لمناقشة عدد من الملفات كنت أظن أنها تشغل بال الناس مثلما تشغل بالى.. وزير الزراعة.. ومعه وزير الصناعة والمسئولون عن ملفات أخرى معظمها اقتصادية.. وما لفت نظرى أن الرئيس يتحدث فى تفاصيل غابت عن اهتمامات المسئولين فى مصر منذ سنوات بعيدة.. حتى ظننا أننا لن نناقشها مرة أخرى.
منذ سنوات خمس تقريبًا.. كنت قد انتبهت إلى خبر يقول بأن الرئيس اجتمع مع المجلس الأعلى للزيتون فى البلاد.. لم أكن أعلم أن لدينا مجلسًا للزيتون وأعلى كمان.
كل ما كنت أعرفه أن لدينا صحراء جرداء.. بملايين الكيلومترات.. وأن شتلة الزيتون سعرها لا يتعدى جنيهات قليلة فيما نستورد ما يقرب من تسعين بالمائة من الزيوت التى نستهلكها ولا يمكن لأى بيت فى مصر أن يستغنى عنها.
وكنت أعرف أيضًا أن بلادًا مثل إسبانيا وسوريا وفلسطين تعتمد بشكل أساسى على صناعات الزيتون فى دخلها القومى.. وكنت أعرف أيضًا أن زيت الزيتون من أغلى وأهم وأجود أنواع الزيوت.. وأكثرها حفاظًا على الصحة، وأن الأعلاف الناتجة عن عملية العصر هى الأغلى والأجود فى الأعلاف التى تحتاجها الثروة الحيوانية والداجنة أيضًا.
يومها قرأت الخبر بعناية.. ومن بين سطوره فهمت أن الرئيس وجه بزراعة الزيتون فى مئات الآلاف من الأفدنة ضمن مشروع كبير يهدف إلى أن نكون من بين الدول الأوائل فى صناعته وتصديره.
ومرت السنوات الخمس وظنت أن لا شىء قد حدث فى هذا الملف الذى أعتبره حيويًا، حتى عرفت من الخبر الجديد الذى أُذيع عقب لقاء الرئيس مع وزير الزراعة أننا ننتج ثلاثة أرباع المليون طن من ربع مليون فدان تمت زراعتها بالزيتون فى بلادنا.. وأننا سبقنا إسبانيا.. وصرنا المصدّر رقم واحد فى العالم.. وهو الأمر ذاته الذى حدث فى ملف زراعة التمور.. وتصدير البرتقال أيضًا.
ما يعنيه هذا الخبر المبهج أن آلاف البيوت قد عُمّرت قبل أن يتم تعمير الصحراء.. وأننا على طريق التصنيع والتصدير بعد ما زرعنا وأنتجنا، وأن صناعات أخرى مكملة فى الطريق حتمًا.. خاصة أن لقاء الرئيس تضمن أخبارًا مفرحة عن إعادة تأهيل مصانع قها وإدفينا، وتحويل منطقة السادات إلى مدينة متكاملة للصناعات الغذائية.
تلك الأخبار، التى تحتاج إلى شرح وافٍ لتفاصيل ما جاء فيها بالصوت والصورة، كل منها فى حد ذاته مشروع قومى لزراعة وتصنيع الأمل.
حينما تقيم مصنعًا جديدًا أنت تصنع المستقبل، وحينما تزرع فدانًا جديدًا أنت تزرع الأمل.. أنت تنتج الحاضر الذى تحتاجه لنعبر عليه من حالة الانهيار والإهمال والفوضى واليأس إلى حالة اليقين بأننا قادرون.
الأمر ليس مجرد نوع من الزراعات أنت تمتلك فيه ميزة نوعية.. أو صنف من الفواكه يأتى لك بملايين الدولارات التى تحتاجها، لكنها الحياة التى كنا نستحقها منذ سنوات طويلة.. وضاعت فى غمار سياسات الفهلوة ودهن الهوا دوكو.
ما يجرى فى قطاع الزراعة تحديدًا يحتاج إلى بطولات فقد عانى علماء مصر فى تلك المجالات لسنوات طويلة من التهميش وركن منجزاتهم العلمية تحت ركام الأتربة وفى الدواليب العفنة.. وها هو وقتهم.
ملايين الأفدنة التى تمت زراعتها بالنخيل فى توشكى والوادى الجديد وعشرات البحيرات التى تم تطهيرها وإعادة تأهيلها لتنتج ملايين الأطنان من الأسماك.. العلم الذى أصبحت له قيمة الآن فى طرق الرى والزراعات الحديثة والحيوية.. كل هذه الملفات أظن أنها الأولى بتسليط الأضواء عليها.
أما ذلك الفيلم.. أو تلك الأغنية .. فليست أمورًا تافهة على ما أعتقد.. لكننا لسنا فى مرحلة تغييب عقولنا أيضًا.
نحتاج إلى المزرعة.. والبحيرة.. مثلما نحتاج إلى العقول النيرة.. نحتاج إلى المزارع الواعى.. والصياد الماهر.. مثلما نحتاج إلى المطرب والممثل.. لكن بلادنا التى تنحت فى الصخر لا تحتاج إلى «معركة تافهة» فى وقت عاصف مثل الذى نعيشه.
البلاد التى جرفتها الأوبئة.. والبلاد التى ضيعتها فوضى المتآمرين عليها من أبنائها ومن غيرهم لا تستطيع الآن مقاومة فيروس تافه وصغير.. أما البلاد التى زرعت وصنعت وعلمت وتعلمت فهى الأبقى.. ونحن نحتاج بلادنا التى تستحق أن تكون قبل كل هؤلاء الناجين والناجحين ولا نجاة لنا إلا بحريتنا.. وحريتنا تعنى أن تكون قوتنا ولقمة عيشنا من زرع إيدينا.
أفيقوا يرحمكم الله.. فلا وقت الآن للعبث.