ميسون صقر القاسمي: جرتني الوثيقة لكتابة «مقهى ريش.. عين على مصر»
ميسون صقر القاسمي واحدة من أبرز كاتبات الوطن العربي، جاورت بين الفنون، فهي الشاعرة والروائية والتشكيلية وكاتبة السيناريو، ولم يفتها أن تكون الباحثة، بصيغة أخرى تسرب فيها كل تلك الفنون عبر الكتابة، ليأتي كتاب "مقهى ريش.. عين على مصر" خارج التصنيفات المحدودة للكتابة، والذي يعد بمثابة تطوافًا معرفيًا موسوعيًا، جامعًا للتاريخ والوثيقة والجغرافيا، معنيًا بتفاصيل وتاريخ مصر الثقافى والاجتماعى والسياسى والمعماري في ١٠٠ عام «القاهرة الخديوية".
عن ريش المقهى والوثيقة والعمران والسياسية والثقافة عبر 100 عام، كان هذا الحوار لـ"الدستور" مع الشاعرة ميسون صقر القاسمي، وإلى نص الحوار:
شغفي بالوثيقة كان طريق لكتابة "مقهى ريش"
كيف كانت البداية مع الكتابة عن مقهى ريش عين على مصر ، والذي جاء في صورة شهادة على العصر بالتطواف التاريخي والثقافي والفني والسياسي والمجتمعى والعمراني.. حدثينا كيف جاءت البداية؟
البداية كانت صدفة بحتة، فقد نشأت فكرة الكتابة عقب الأيام الأولى لثورة يناير، وقتها كنت أتردد على مقهى ريش، كونه المكان الوحيد الأكثر أمانا وملتقى لنخبة مثقفي مصر، والأقرب إلى ميدان التحرير، شهدت صدفة الأستاذ مجدي عبد الملاك يعرض وثائق مقهى ريش على شخص ما ويحدثه عن تاريخها، توجهت بحديثي لصاحب مقهى ريش وطلبت منه أن يقوم بتصوير هذه المستندات ديجيتال، وأن تكون متاحة رقميا بين يديه، خشية تلف الأصول، واستأذنته في أن يقوم صديق مؤتمن بالقيام بهذا العمل، وبالفعل قام صديقي بتصوير كل تلك الوثائق في ثلاثة شهور، واستأذنت الأستاذ مجدي عبد الملاك في الحصول على نسخة من صور الوثائق لتكون في حوزتي لتقسيمها، وأرشفتها.
هل الوثائق حرضتك على كتابة مقهى ريش ؟
كانت الوثائق كثيرة ومثيرة ومدهشة، ما فيها يثير التساؤلات، ويستعيد الماضي البعيد لمقهى ريش، جذور المقهى المرتبط بتاريخ وسط القاهرة، وبالتالي مرتبط بتاريخها السياسي والثقافي والاجتماعي، كان علي ترتيب تلك الوثائق وفحصها وقراءتها تاريخيا وثقافيا واجتماعيا وسياسيا، فالوثائق فيها ما يحير ويثير الاستغراب أنموذج رسالة من راسل باشا حكمدار القاهرة في تلك الفترة، وقد توضع في ثورة 19 قد توضع هذه الورقة كدليل وتاريخ على النشاط الفني في مقهى ريش وتاريخ الغناء بشكل عام.
ثمة ورقة أخرى وهي مرتبطة بالمالك لمقهى ريش الفرنسي "بوليتس" وكانت عام 1914، وكان الرجل قد ترك المقهى ليشارك في الحرب العالمية، حتى عام 1919 في تلك الفترة كان المصريين لا يمتلكون المقاهي والحانات التى تقدم فيها المشروبات الروحية، وكانت تؤول ملكيتها ونشاط هذه الأ ماكن للأجانب حتى سقوط الدولة العثمانية ، كانت هناك العديد من الوثائق تحتاج إلى استعادة قراءة التاريخ ما بين التاريخ العام والخاص للمقهى.
طول الوقت كان يلازمني ذلك الإحساس بأن صورة وتاريخ المقهى هى صورة لتاريخ مصر بشكل مصغر، بدءا من الثورة وتاريخ الغناء وصولا إلى احتشاد المثقفين بالمقهى في فترة الستينيات، لذلك بدأت أبرز تاريخ المقهى.
وقمت بعمل أرشفة كاملة عن كل ما كتب حول وعن مقهى ريش، ولا شك في أن الوثائق جرتني في البحث حول الفكرة، فالمقهى هنا صورة مصغرة لتاريخ مصر، ولا يمكن أن أكتب عن المقهى إلا بالكتابة عن مآلاتها.
هناك شغف تملكني بالبحث عن ما كان يدور في مصر. إلى جانب ذلك فكرة المعرفة التي لاتنتهي، القراء الموسوعية حول وعن تلك الفترة وما سبق إنشاء مقهى ريش، هذا ما أخذني إلى التطواف المعرفي حول ريش، هذا ليس غريب علي فالقاهرة تشغلني في كل كتاباتي وهذا تجده بشكل واضح في رواية ريحانة ـ وفي فمي لؤلؤة، ستجد أن ثمة فضائين لذلك العملين هما مصر والإمارات.
روح الباحثة تلازمني في كل أعمالي
مقهى ريش كان مازال مشروع تشتغلين عليه.. في تلك الفترة أنجزت رواية “في فمي لؤلؤة” والتي جاءت بطلتها باحثة، هل يمكن لنا القول إن ميسون صقر كانت تكتب نفسها عبر كل تلك الأجناس الإبداعية لتكون الباحثة التى تسبقها الشاعرة والتشكيلية والروائية؟
فكرة رواية "ريحانة" أخذتني إلى البحث عن تاريخ عن العبودية وعمليات البيع والشراء، وخروج الأخوان لأفغانستان وعودتهم، إلى جانب الأشياء الكثيرة التى كانت محجوبة عني والتى ظهرت عبر الرواية، جاء كل هذا في فترة هى الأكثر غرابة في حياتي، والأكثر ألما، كنت بأمريكا إلى جوار والدتي رفيقة لها بإحدى المستشفيات ولمدة سبعة شهور، استرجع واستعيد كل هذه الأفكار، إلى جانب استعانتي بالمراجع والمصادر العربية كنت أطلبها تأتيني من القاهرة، في هذا الوقت لم يكن هناك وسائل تواصل اجتماعي، ولم يكن هناك نت. كل هذا البحث والتقصي جاء أقرب إلى الومضات في ريحانة.
لم يقف البحث والتقصي إلى هذا الحد، فقد تصديت لجمع وإعداد وتحقيق الأعمال الكاملة لوالدي "صقر القاسمي"، وهذا ما جعلني أبحث في الشعر الشعبي، في هذا الوقت لجأت إلى مركز التراث الشعبي بالإمارات، وقابلت العديد من الصيادين، ومنهم تعلمت اللهجة الشعبية واستعادتها مجددا بتفاصيلها، وهذا ماجعلني أعرف وأدرس القصيدة العامية الخليجية، في هذه الفترة كنت اقرأ عن الصيد بشكل كبير.
في هذا الوقت من بعد الثورة وجدت روح الوثيقة والاكتشاف جرتني إلى كتابة "مقهى ريش..عين على مصر"، هذا يعني أن روح الباحثة لا تفارقني في الشعر والرواية والتشكيل والفيلم، وقد يرجع هذا إلى دراستي كخريجة علوم سياسية، كنت اتحصل دائما على تقدير امتياز في تقديم الأبحاث المطلوبة مني.
نشأت في مكتبة والدي وكانت مفتوحة لي طول الوقت، قدم والدي لي “ألف ليلة وليلة” كهدية، في وقت مبكر جدا من حياتي لم أتجاوز العاشرة من عمري، وكانت عيني ترى أحمد رامي، وسهيل إدريس، فدوى طوقان، روحية القليني، وأم كلثوم في بيتنا، والقط وغيرهم.
ريش ما بين السياسة والثقافة
ماذا عن النقاط المشتركة ما بين تاريخ مصر وريش؟
ثمة قالب جامد وضع فيه مقهى ريش ضم دوائر منها السياسي، والثقافي، ومقهى نجيب محفوظ،، ولم يذهب أحد إلى تاريخ ريش المرتبط بتاريخ مصر، الذي يأتي من الوثيقة كشاهد، وهذا هو الخيط المشترك والرابط بين ريش وتاريخ مصر، والذي كان المنطلق للكتابة عن ريش، داخل هذا المقهى هناك طبقات من الوعي ومن المعرفة، طبقة التاريخ السياسي الفاعل.
طبيعة وجغرافيا المكان تشير إلى أن هذه المنطقة كانت تشغي بالثقافة والفن والأدب والتاريخ والسياسة، رئيس وزراء مصر كان يسير في نفس الشارع، غنت فيه أم كلثوم، إلى جانب جلسات محفوظ، حظ ريش أنه كان في هذا المكان، هو مكان للمصريين وصنع تاريخه مصريين رغم امتلاكه ليونانيين.
كيف جاء مقهى ريش كشاهد على فكرة وتقويض تفكير المجتمع المصري واشتباكه مع الأفكار على مر تاريخه؟
ريش لم يكن بالنسبة لي مجرد مكان جماد لا يتزحزح، كان يشارك ريش برواده في أحداث مصر، بدءا من ثورة 1919 وصولا لثورة 52، حتى فكرة نقل التماثيل من مكان لآخر أو حتى حجبها، وصولا لتغير الشوارع واسمائها، يدل على الانتقال وعدم الثبات في نفس الوقت، فمثلا اختفى فندق سافوي ليحل محله مبنى ممر بهلر، إلى جانب ذلك تغيير أسماء الشوارع وألغت إلى حد كبير مظاهر الملكية المرئية، فمثلا تغير شارع إبراهيم باشا ليصبح باسم شارع الجمهورية، وميدان محمد فريد إلى ميدان محمد نجيب، هذه التغييرات مرتبطة بحراك سياسي ومجتمعي وثقافي.
هذا يأخذنا إلى سؤال حول التغييرات الحادثة في منطقة وسط القاهرة وكيف تراه ميسون صقر؟
هناك أحساس يتملكني أنا شخصيا هو الحنين، وآخر هو النظر إلى التجديد، شيء مفرح أن ينظر إلى الأشياء الموجودة كقيمة جمالية ومعمارية وحضارية، هذه الأشياء كانت مهملة إلى حد ما، ومعنى الاهتمام بها الآن هو لصالح قيمة المكان وقيمة العمارة وقيمة الميدان. وقيمة ومعنى التجديد المرتبط بالحرص على التاريخ. معماري مصري هو من نفذ ميدان التحرير ومعه محكمة النقض الموجودة حاليا في وسط بشارع فؤاد.
الأماكن أرواح تحمل ذاكرة قديمة
هل يذهب الكتاب إلى أن يكون بمثابة استعادة لذاكرة الأمة المصرية خلال الـ 100 عام الفائتة؟
بحكم أنني عشت داخل بيوت قديمة كثيرة، دائما ما أنظر إلى الأماكن كأرواح تحمل ذاكرة قديمة، ثمة أقدام مرت من هنا قبلنا، وبالمناسبة بيتي الذي أسكن فيها الآن بالقاهرة في ضاحية مصر الجديدة قرب أن يصل عمره بنائه إلى مائه عام، أنظر إلى البيوت كذاكرة مشغولة بالموسيقى والأصوات التى سبقتنا هنا في الحديث، كذلك البيت الذي عشت فيه بالإمارات كان بمثابة حصن بني منذ عام 1800، أي ما يقرب من 200 عام، فكرة البيوت القديمة لها شخصية خاصة بها، وخاصة بهؤلاء الذين حضروا فيها.
بمقهى ريش يأتي صوت الماضي، مازال يرن ومازال صداه يشغل أجواء المكان ويعيش معنا، ذلك مرتبط بالمقهى، إلى جانب ذلك المصريين مرتبطين جدا بالمقهى، وكأنها جزء من تفاصيل حياتهم اليومية،على عكس أي آخر، وهذه ثقافة لم أعرفها من قبل، وبدأت استكشف عن المقهى وتاريخ القاهرة ، في تلك المساحة التى وجد فيها "ريش"، والذي اصبح جزء من تاريخ المكان بدءا من قصر إلى تحوله عمارات وصولا إلى مقهى، شغفي زاد بمأل المقهى، شباب المقهى ريش وبداياته كانت الأغاني والمسرح حاضرا، غنت فيه أم كلثوم وجلس فيها درويش وكبار الساسة في مصر والعالم، صحيح أن ريش حدثت له تغييرات نتيجة الواقع وكجزء من الواقع، وواكب تلك التغيرات وأثرت فيه الأحداث السياسية والتحولات الاجتماعية، أنظر إلى ريش كنقطة للتطواف المعرفي والثقافي والاجتماعي والسياسي لتاريخ مصر، من هذا المنطلق كنت اتحدث وأدخل على التاريخ، أنظر هذا المكان بعين الآن والماضي مثله مثل الإنسان.
على أن أوضح أن ما يعيشه ريش الآن يعود إلى تغير مفهوم المقهى واختلافه في اللحظة الراهنة، ويمكن وصفه بالأبن الشرعي للزمن الماضي، سواء استمر في لعب دوره أو لم يستمر، وقد أثبت دوره في الكتابة.
هل فترة شباب مقهى ريش كان فترة الستينيات؟
هذا بالنسبة لنا، ولكن الحقيقة فترة شباب مقهى ريش كانت في أربعينيات القرن الفائت، وذلك بحضور أساطين الثقافة والفكر والفن والسياسة، أما مرحلة الستينيات فكان ريش شاهد على تاريخ طويل من نضال المثقفين واحتياجاتهم، إلى جانب أنه كان شاهد على قصص حب لا تمحي منها، اللقاء الأول للكاتبة عبلة الرويني وأمل دنقل، صافي ناز كاظم وأحمد فؤاد نجم، المخرجة عطيات الأبنودي والشاعر عبدالرحمن الأبنودي، إلى جانب أنها شهدت جلسات لتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ، وجلسة نجيب محفوظ التي كانت تقام كل جمعة ويحضرها كبار مثقفي تلك الفترة.
إلى جانب هذا ستجد أعمال إبداعية ولدت في مقهى ريش، منها رواية "الكرنك" لنجيب محفوظ، و"بروتوكولات حكماء ريش" لنجيب سرور.
هل يأخذنا كتاب بكل مافيه من تطواف معرفي وثقافي واجتماعي حول وعن القاهرة إلى أن يكون هناك عمل درامي عنه ؟
الحقيقة أن ريش يستحق عمل فني ودرامي عنه، ويمكنني المساعدة والمشاركة فيه، وعلى الرغم إني أكتب السيناريو ولكن في ريش تحديدا فقد أنجزت هذا الكتاب عنه وهذا يكفيني، وقد تحدثت إلى عبدالرحيم كمال فقد يكون هناك عمل عن ريش، والأمر متروك للدار فهي له حق التصرف في هذا.