الغطاس أيام زمان.. أجمل ما قيل عن العيد على لسان عبد الرحمن الأبنودي
تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، برئاسة قداسة البابا الأنبا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، اليوم الثلاثاء، ببرامون وقداس عيد الغطاس المجيد، والذي يحمل كذلك مُسمى وشعار “عيد الظهور الإلهي”.
ونشر المؤرخ الكنسي والمتخصص في التاريخ القبطي المعاصر ياسر يوسف غبريال مقالا تاريخيا كان قد نشره الكاتب والأديب المصري عبد الرحمن الأبنودي فى جريدة الأهرام، وأعاد نشره أيضًا فى كتابه «أيامى الحلوة»، تحت شعار “عيد الغطاس أيام زمان”.
جاء نص المقال كالآتي:
ولدت ونشأت في قرية تعيش على الطقوس. لم تخترع طقوسها، وإنما حملتها معها بأمانة وحرص تمرق بها مخترقة حواجز الأزمنة، وتجتاز تضاريس القرون، وهي تحقق بتلك الطقوس وظائف حياتية ودينية محددة، والحديث عن طقوس قريتي لا ينتهي فإنها تغلف حياة انسانها منذ الميلاد إلى ما بعد الموت.
ولأن قريتي عاشت كبدن واحد تمتزج هموم مسلميها بمسيحيها في مواجهة الحياة الشاقة والمفاجآت الكونية، ويعود الفضل لذلك النهر العظيم الذي لم يكبح جماحه إلا منذ سنوات قليلة، فقد كان غضب النيل لا يفرق بين مسلم و مسيحي أو بين من يملك ومن لا يملك. لذا سقطت المسافات بين لابس العمامة، وواشم الصليب، ان مواجهة الفيضان ملحمة الملاحم، ومن لم ير قريته تواجه ثورة النيل يظل لا يعرف مصرنا الحقيقية، ولا يصل لكنه المعدن الخام الذي تشكل منه ضمير الإنسان المصري.
أهل قريتنا أغلبية مسلمة وأقلية مسيحية، يعمل مسلموها بالزراعة ونقل الغلال وتجارة الحبوب، أما مسيحيوها فورثة لصناعات المصريين القدماء من صباغة ودباغة وغزل ونسيج تعرفهم هناك بزرقة أيديهم الزرقة الدائمة وتعرف بيوتهم بحفر الأنوال القابعة أمام الدور، أو في الغرف الخارجية للبيوت وبانكبابهم على دواليبها وأنوالها رجالا ونساء.
لم يعلمنا أحد حب النصارى، وإنما خرجنا للوجود فوجدناه. كنا أطفالا حين كنا نوقف اللعب إذا مر قس كنسيتنا الفقيرة، وكنا نخاطبه بـ(أبونا) و كان أطفالهم يقبلون يد شيخنا، واختلاط الأعياد هو الوجه الأنضج لهذه العلاقة الحميمة، والدليل الأكبر على نفي المسافات بيننا، فكانوا يلبسون الجديد في أعيادنا، وكنا نشاركهم أعيادهم كأنهم ضيوف عليهم وتعتبر أعياد ميلاد السيد المسيح وكل المناسبات الاعتقادية المتحلقة حول رأس السنة الميلادية أعيادا إسلامية في نفس الوقت سبت النور وأحد الخوص والغبيرة ورعرعة أيوب.. إلخ، أهم تلك الطقوس كان ذلك الطقس العجيب الذي عنيته بكل تلك المقدمة وهو( البلابيصا).
وكلما جمعتنا الظروف بعالم مصريات أو قبطيات سألته عن معنى الكلمة أو شبيهة لها في لغاتهم علها تكون لفظة، حرفت، أو طقسها قديما اتخذ شكله المستقر الذي ورثنا ممارسته مجتمعين مسلمين ونصارى دون أن يحاول طرف منا ادعاء ملكيته، برغم أن كل الشواهد تؤكد مسيحيته، لكن لكثرتها فإن المناسبة كانت تحت حمايتنا نحن أبناء المسلمين.
(البلابيصا) هو اسم هذا الاحتفال الذي كان يتم في قريتنا والقرى والمدن المجاورة أيضا عشية أعياد الميلاد، ولأننا لا نعرف مدلول الاسم، فإننا بالطبع لن نعرف مدلول الفعل ( بلبصي) فقد كان نرددها في الأغنية التي تتوج تلك الاحتفالية الرائعة دون أن نعرف لهما معني.
خلال أسابيع كان القفاصون ينشطون في إنجاز صلبانهم الجريدية بحيث تكفينا جميعا. صلبان في كل طرف من أطرافها الأربعة ثقب، يتوسطها عود جريدي حاد صاعد يقابله عود يتجه لأسفل، وفي الليلة الموعودة نشتري صلبانا وأدواتها: عود قصب، برتقالة، أربع شمعات، ونبدأ بوضع شمعات الاحتفالات الرفيعة كل في ثقبها، بعدها نغرس البرتقالة في العود الحدا الصاعد الذي يتوسط الشمعات الأربع ثم نغرس كل ذلك في رأس عود القصب بالعود الجريدي الحاد النازل.
ويتجمع أبناء كل حي في حيهم بصورة تلقائية بعد غياب الشمس ومع حلول الظلام لم يكن بالقري كهرباء في ذلك الوقت فجأة تضاء الشموع، ويرفع الأطفال عيدان القصب و يخرجون من الحي يصدحون بأغنيتهم السريالية المهيبة.. ليلتقي جميع أطفال الأحياء في بدن واحد وصوت واحد وعليك أن تتخيل مساحة تلك الرقعة من الشموع وهي تتحرك مائجة الضوء والغناء في قرية مظلمة.
أما الأغنية العجيبة فإنها كانت تقول:
يا بلابيصا..
بلبصي الجلبة
يا علي (يا ابني)
جوم بنا بدري..
دي السنة فاتت
والمرا.. ماتت
والجمل برطع
كسر المدفع
وكلما انتهت الأغنية بدأت من جديد، و يتقدم الموكب ليدور خلف المسجد البسيط، ثم يتجه في الدروب الضيقة نحو كنيسة قريتنا الفقيرة.. ثم يخترق كل الأحياء فتستقبله وتشيعه زغاريد الجدات و الأمهات وهنا حين يذوب الشمع، يفترش الأطفال تراب الساحة. يقشر كل طفل برتقالته ويلتهمها. ثم يبدأون في مص القصب وهم يلهون و يسمرون، وفي الدور تلتهم لبش كاملة من القصب في تلك الليلة في مجتمعات الكبار.
و إذا عدنا للأغنية فإن أعجب ما فيها هو أننا كنا نغني كلمات لا نفهمها، و هو ما لم يحدث من قبل في مئات الأغنيات التي كنا نرددها، فحتي الآن لم أستدل على معنى كلمة بلابيصا. قيل لنا أن هيلاليصا كلمة فرعونية، أمل بلابيصا وبلبصي فلم يرو فضولي نحوهما أحد. بل إن البيت الأول يزيدك إبهاما- الفعل أو الفاعل والمفعول به أيضا كلمات مجهولة، فما هي هذه الجلبة التي سوف تبلبصها البلابيصا؟..
ومن هو علي الذي تخاطبه تلك المرأة بقولها: يا علي يا بني.. وماذا تعني بقولها: دي المرا ماتت؟ من هي المرأة التي ماتت؟ هل هي السنة الميلادية؟ خاصة أنها تتبعها بقولها: والسنة فاتت؟ ومن أين جاء المدفع الذي كسره الجمل الذي برطع؟ هل هو من بقايا صور الحملة الفرنسية و مقاومة حملة ديزيه في الصعيد ؟ تظل كلها أسئلة تنتظر فك طلاسم كلمة بلابيصا, وتفتح باب الاجتهاد أمام علماء اللغات القديمة.
لكن المهم في كل ذلك أننا كنا نحن أبناء المسلمين نرفع صلبان الجريد بلا حرج. إننا نغرب العلاقة حين نقول إنها وحدة بين مسلمين و أقباط و إنما عشنا ومازلنا شعبا واحدا امتص الحضارات التي أبدعها إنسان النيل الجميل، ومن المحال لمن وحدهم النهر العظيم أن يفرق بينهم أهل الجهالة دعاة التخلف خفافيش الظلام المريبة ومن المحال أن يعثروا في دواخلنا على عوامل للفرقة والتفكك و الانهيار، أو أن يصنعوا منا أغلبية و أقلية.