هل كان العقاد متطرفًا
عباس محمود العقاد، مفكرنا ذائع الصيت. ولا يخفى على أحد أن العقاد كان واسع الإطلاع، وأنه كوَّن عبقرتيه وبنى شهرته بالاطلاع وحده.
العقاد له مؤلفات في موضوعات مختلفة، في الأدب والتاريخ والاجتماع منها مطالعات في الكتب والحياة، ومراجعات في الأدب والفنون، وساعات بين الكتب، وعقائد المفكرين في القرن العشرين وجحا الضاحك المضحك وبين الكتب والناس والفصول واليد القوية في مصر.
وله في النقد الأدبي مؤلفات كثيرة، أشهرها كتاب "الديوان في النقد والأدب" بالاشتراك مع المازني، وكتاب "ابن الرومي حياته من شعره"، وشعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي، ورجعة أبي العلاء، وأبو نواس الحسن بن هانئ، واللغة الشاعرية، والتعريف بشكسبير.
كما كتب في السياسة عدة كتب يأتي في مقدمتها: "الحكم المطلق في القرن العشرين"، و"هتلر في الميزان"، وأفيون الشعوب"، و"فلاسفة الحكم في العصر الحديث"، و"الشيوعية والإسلام"، و"النازية والأديان"، و"لا شيوعية ولا استعمار".
للعقاد رأي في المذاهب السياسية والاجتماعية المعروفة، فحارب الشيوعية ونظم الحكم الاستبدادية، وكان يري أن الشيوعية مذهبًا هدَّامًا يقضي على جهود الإنسانية في تاريخها القديم والحديث، ولا سيما الجهود التي بذلها الإنسان للارتفاع بنفسه من الإباحية الحيوانية إلى مرتبة المخلوق الذي يعرف حرية الفكر وحرية الضمير.
وكان العقاد لا يضيع ساعة واحدة في كتاب لا يري من ورائه فائدة. وكانت للعقاد أراء متعددة في الكتاب الأوروبيين والعرب. فكان يري أن الكاتب (دي. اتش. لورانس) يعتبر رسول الأدب الإباحي في العصر الحديث، ويري أنه تأثر بمبدأ السادية المنسوب إلى المركيز دي ساد.
بعض تلك الآراء كان صائبًا، وبعضها كانت تحكمه اعتبارات سياسية ودينية، ومن تلك الاعتبارات شكل العقاد رأيه في الكاتب لورنس داريل. صاحب رباعية الإسكندرية.
وقبل أن نستعرض رأي العقاد في داريل نود أن نشير إلى أن داريل كاتب بريطاني من أبوين إيرلنديين، ولد في الهيمالايا في 27 فبراير 1912, نظم الشعر وكتب الرواية، ومن روايته المشهورة رباعية الإسكندرية، وهي أربعة أجزاء هي جوستين، بالتازار، ماونت أوليف وكليا، ونشرت بالإنجليزية خلال عام 1960.
كل جزء من أجزاء الرباعية الأربعة يعد بمثابة عمل روائي مستقل، وكلها تدور حول جماعة من الأوروبيين والمصريين يعيشون في مصر، وبالتحديد في الإسكندرية وينتمون إلى جمعية سرية يهودية فكرية تجتمع ظاهريا لدراسة تعاليم القابالا اليهودية، التي تعني بالصوفية كمذهب فلسفي، ولكن الجمعية كان لها أهداف سياسية أخري، فقد كانوا يدبرون لطرد بريطانيا من فلسطين وإحلال حكومة يهودية بدلا منها. ويري داريل أن الروايات تمثل بعدا زمنيا واحدا ويتنوع المكان فيها والأشخاص، بحيث تقدم ما يعرف بالنظرية النسبية في علوم الرياضيات والفيزياء، أي رؤية الشيء الواحد بأوجه متعددة، وهي فكرة رائدة وحديثة على الأدب الإنساني، جربها داريل في رباعية الإسكندرية، وانتجت عملا إنسانيا بالغ الروعة.
لأجل هذا حاول بعض شباب الأدباء ترجمتها إلى اللغة العربية فور صدورها في بداية الستينات.
ومن هؤلاء شاب أرسل للعقاد عبر جريدة الأخبار برغبته في ترجمة رباعية الإسكندرية لداريل، ويريد رأيه في فكرة الترجمة، وأشار العقاد إلى الأديب الشاب بحرفي (س. ر) ووصفه بأنه أديب ناشئ. ورد عليه العقاد في نفس الجريدة بتاريخ 24/8/ 1960 بقوله إن هناك صفحات مطولة في قصة ماونت أوليف تنحي على السياسة البريطانية أيام الاحتلال، وخططها للتفريق بين طوائف الوطن الواحد، ونحن نفضل شعر داريل على نثره في موضوعاته المختلفة ونتجاوز عن الشطحات الرمزية، لأن حسناته تعوض تلك السيئات. جاء ذلك في كتاب يوميات العقاد. الجزء الثاني. طبعة دار المعارف.
بعد هذه الإجابة لم يترجم الأديب الناشئ (س. ر) رباعية داريل.
أول ترجمه لرباعية الإسكندرية قرأناها كانت ترجمة الشاعرة السورية سلمي الخضراء الجيوسي، وترجمت رواية جوستين فقط وصدرت عن دار نشر لبنانية وتوقفت، في الوقت الذي كانت فيه مصر تبدأ نهضة هائلة في عالم الترجمة، وكانت تبحث عن ألف كتاب لترجمتها في المشروع القومي للترجمة. ولم تكن الرباعية من ضمن الألف كتاب الأولي ولا الثانية. ثم ترجمها بعد ذلك الكاتب المصري الدكتور فخري لبيب كاملة ونشرتها دار سعاد الصباح للنشر في القاهرة عام 1992.
ربما كان هناك رأي العقاد في الرباعية هو الذي أخر ترجمتها لمده تزيد الثلاثين عاما من عام 1960 إلى عام 1992. فهل كان رأي العقاد سببا في تأخير الترجمة،
يقول ناشر الرباعية في الجزء الخاص بماونت أوليف على غلاف الكتاب إن الجزأين الثالث والرابع من هذا العمل الفريد وهما ماونت أوليف وكليا لم يترجما لأسباب غامضة، وأنهما يشكلان جزءا من الرواية لم يجرؤ أحد من قبل على مجرد التفكير في ترجمته، فقد ذهب البعض إلى أن الجزأين يقدمان صورة العربي التي لا يحب أن يراها أبدا، ويركز على المكبوتات التي يدور حولها الكاتب العربي ويفرد المكان كله لكي تسود في النهاية صورتنا الوهمية.
ماونت أوليف، بطل الرواية، كان سفيرا لبريطانيا في مصر، وحوله شخصيات ثانوية مثل دارلي (الراوي) وجوستين وبلتازار، ولكنهم بمثابة جزء أساسي من خيوط الأحداث لتتكشف لنا رؤية جديدة لنفس الوقائع التي تدور ما بن القاهرة والإسكندرية في مجتمع الأجانب، ويتشابك معهم بعض المقهورين والهامشيين من أبناء مصر، وهذا الجزء بالذات يطرح من جديد علاقة النص بالمحرمات المصرية حول علاقة الأقباط بالمسلمين. لأجل كان لابد من ترجمة العمل كله دون حذف، وهذا ما فعله المترجم فخري لبيب.
ولكن هل يوجد في النص بالفعل ما يستحق ريبة المفكر الكبير عباس محمود العقاد ما يستحق تأخير الترجمة؟ وهو ما سنوضحه في المقال التالي.