إنقاذ عروس النيل
بعد حدف سيدة من الدور السادس وقتلها وفقًا لثقافة الحسبة والأفكار العرفية التي لا علاقة لها بالقانون، بل بما يعرف شعبيًا بشرف المجتمع وأعرافه وهي الفكرة الأقرب لثقافة «الثأر» التي سادت في الصعيد لسنين طويلة وحوصرت بالقانون وطرحتها السينما في أعمال كثيرة وأحدثت فيها حراكًا و تغييرًا تراكميًا ناهض تلك الثقافة من أجل القضاء عليها، وصار لابد الآن من محاصرة جميع الممارسات والأعراف الخارجة عن سيادة الدولة وقوانينها الوضعية المتمدينة.
تلك الممارسات والأعراف التي تقتل النساء فعليًا على الأرض، وتغتالهن معنويًا أيضًا، فتنتحر الطالبة «بسنت خالد»، ثم تنبطح وتنسحق معلمة المنصورة «آية يوسف» لتستجدي عطف وغفران المجتمع، فتبكي وتنتحب وتذرف الدموع، وتقر بأنها مخطئة ومذنبة وارتكبت إثمًا وفضيحة! وتتوسل لأناس مجهولين لا تعرفهم، ليرحمها هؤلاء من القيل والقال، ويسامحوها، وفكرت فعليًا في الانتحار والتخلص من حياتها كما سبقتها وفعلت الطالبة التي انتحرت، ولم تحتمل قسوة المجتمع المتربص دومًا بالإناث!
وتعهدت آية- بانبطاح موجع- علنًا وبالصوت والصورة وعلى رءوس الأشهاد، بأنها لن تذهب في رحلات مع زملاء لها مرة أخرى، وإن حدث وسولت لها نفسها الذهاب للتنزه في رحلة مع زملائها فستلتزم الصمت التام طوال الرحلة، وستكون الفتاة المؤدبة المثالية الصامتة، ولن ترتكب فضيحة أخرى مثل «الرقص في مركب نيلي مع زملاء العمل»!
فهل أنتم راضون وسعداء وهانئون الآن يا سيدات ويا سادة؟
فآية لن تفرح مرة أخرى، لقد حرّمت على نفسها الفرح والفرحة، وستعيش في تعاسة أبدية، وفي صمت تام، ولن تمرح مرة أخرى، ولن تغني، ولن ترقص، ولن تهلل، ولن تبتهج، آية ستصمت للأبد حتى يحين أجلها وميعاد صمتها الأكيد، وتوضع تحت التراب، ستصمت آية حية وميتة، وستظل تتضرع لكم، وتقبل الأرض من تحت أرجلكم، كي تصفحوا عنها، وتمنحوها صكوك الغفران والقبول المجتمعي، بعد أن أعادتنا الأعراف والحسبة لمحاكم التفتيش!
فالبهجة حرام، والموسيقى حرام، والفرحة حرام، والمرح حرام، والغناء حرام، والفن حرام، والرقص حرام، والربيع حرام، و"سعاد حسني" حرام، حتى الشتاء فهو حرام، والصيف فسق، وفجور، وتهنئة غير المسلمين بأعيادهم حرام، وارتياد الكاتدرائيات حرام، والمؤتمرات حرام، والحياة الكريمة حرام وتهجير قسري، وحفلات وأوبريتات ذوي الهمم حرام.. بعبارة أدق الحياة ذاتها حرام في حرام، يحرمها المجتمع القاسي- تحديدًا- على إناث البلاد!
وحتى السعادة أصبحت حرامًا، والألوان الزاهية حرام، والزهور حرام، والعطور حرام، والمتعطرة زانية، وعند هؤلاء عمل المرأة أيضًا حرام، إلا في حالة التكفل بإعانة الزوج النائم صباحًا الذي يجلس ويحتسي المكيفات على المقاهي في المساءات، وبالطبع الاختلاط حرام وفسق.. وهكذا تكثر التابوهات والمحرمات والهواجس والهلاوس والضلالات والمنغصات التي تجعل حياة الإناث في بلادي حياة بائسة وغير محتملة ولا تطاق، ويصبح الموت أهون وأحن كثيرًا من الحياة، ويصبح الموت خيارًا وسبيلًا للتخلص من الأوضاع الأليمة التي لا تحتمل وتُدفع المرأة دفعًا، إما للموت أو الانتحار أو الجنون أو الاكتئاب أو الهيستريا والانهيار الذي يدفعها في الكثير من الأحيان للانصياع التام والطاعة المطلقة العمياء والانبطاح والانسحاق، بل ولحالةِ من الاستجداء كالتي وصلت لها بالفعل المعلمة المثالية «آية يوسف» كي يُزال الحمل والسوط الذي سلط على رقبتها وكتفها وظهرها وأدماها!
هل تذكرون «زوزو» سعاد حسني التي ارتدت تاج الفتاة المثالية في رائعة حسين كمال، خلي بالك من زوزو؟
فما حدث مع الطالبة المثالية زينب عبدالكريم الشهيرة بـ"زوزو" في سبعينيات القرن الماضي في الفيلم السينمائي مازال يحدث وللآن، بل وبتوحش وغلو أكبر، رغم مرور ما يقرب من ٥٠ عامًا على صناعة هذا الفيلم، وصريخ الطالب المتشدد فيه، وترديده لعبارة «جمعاء» ليصبح الجميع كالقطيع.. فقط يتبع ويطيع وكأننا نتقهقر لا نتقدم وعندما نتقدم فنحن نتقدم- مجتمعيًا وثقافيًا- للوراء ونسير لخلف الخلف!
التهاب غدة المجتمع العرفية التي تتذرع بالدين لابد من علاجها أو استئصالها بشكل ناجزٍ ليحل القانون محل العرف، ويضع له حدًا بل وحدودًا، وهذا ما حدث في الواقعة الأخيرة وجاء قرار السيد «طارق شوقي» وزير التربية والتعليم بعودة المعلمة المثالية لعملها بعد أن مارست المرح مع زملائها خارج أروقة المدرسة وجهة العمل في رحلة نيلية في نهرنا الخالد.
وبذلك يكون الوزير المستنير والتكنوقراط قد أنقذ المعلمة من أنياب المجتمع الذي لا يرحم ولا يريد الرحمة لسيدات البلاد، وجاء القرار الحكومي ليعيد هيبة وسلطة القانون في البلاد ويحمي «آية يوسف» من سيف المجتمع المسموم، ويحمي بدوره عروس النيل «آية بوسف» من الموت انتحارًا وإن تلقي بنفسها في النيل لتلحق بنفيسة في فيلم «بداية ونهاية»، أو تلحق في الواقع بالطالبة المنتحرة (بسنت خالد) التي راحت ضحية لهذا المجتمع غير الرحيم الذي يمارس أفراده القيل والقال والتشهير، ورغم ذلك يدعون التدين وهم يغتابون الغير، ويأكلون لحمه ميتًا، ويمارسون النميمة بمنتهى الأريحية، ويذبحون الضحايا كل يوم بألسنتهم التي لها مفعول السهام المارقة، بل ويمارسون كل ذلك بدم بارد!
وبات على «آية يوسف» وهي «عروس النيل» أن تكف عن الاعتذار واعتبار ما فعلته فضيحة وإثمًا وجرمًا فادحًا، وأن تعتاد ألا تستجدي أحدًا، وأن تعتمد فقط على نفسها، ولا تعبأ أو تلتفت للغير ومن تركها، فمن تركها وحدها وسط تلك الأمواج المتلاطمة وتخلى عنها وزاد من تعاستها وحملها فوق ما تحتمل لن يكون لها عونًا أو سندًا ولا ظهرًا تستند إليه.
وإذا كانت الأعراف هي التي تسود في مجتمع يتأسد على الإناث فتلك الأعراف قد أنتجت أيضًا أمثالًا شعبية هي نتاج للعقل الجمعي يقول بعضها إن «الناقص بناقص» ويقول كذلك إن «ركنة الخزانة أفضل من زيجة الندامة» تجلدي يا «آية» فأنت بنت النيل وعروسه المبجلة المباركة، ولتخرس إذًا كل الألسنة بسلطة القانون والدولة، لا تعبئي ولا تلتفتي أيتها المرأة.
بوركتي يا بنت «كيميت» و«الماعت» إلهة الحق والعدل والاستقامة، فالمرح في حضارتك العريقة لا يعد إثمًا، فمرحك لم يتسبب في تعاسة أحد كي يكون إثمًا، أو يكون آثم قلبك لقد تسببوا هم في تعاستك أنتِ أيتها المبجلة فهم الأثمون إذًا وهم المذنبون، وريشة الماعت وقوانينها ستحاسبهم وسيقف القانون لهم بالمرصاد في دولة القانون في الجمهورية الجديدة.