في ذكرى رائد المسرح الغنائي العربي.. هكذا واجه أبو خليل القباني المتشددين
"يا طيرة طيري يا حمامة... وديني لدمّر والهامة"، "يا مال الشام يا الله يا مالي طال المطال يا حلوة تعالي"، "يا غصن نقا مكللاً بالذهب" ،"بالذي أسكر"، هذه الموشحات وغيرها وضع ألحانها رائد المسرح العربي في القرن التاسع عشر، حيث قدم أول عرض مسرحي في دمشق عام 1871، بعنوان "الشيخ وضاح ومصباح وقوت الأرواح". إنه أحمد أبو خليل القباني، والذي تحل اليوم ذكري رحيله عن عالمنا، في مثل هذا اليوم من العام 1903 إثر إصابته بمرض الطاعون.
كان أحمد أبو خليل القباني شعلة فن ومسرح وثقافة وتنوير إنطلقت في دمشق بنهاية القرن التاسع عشر، لتضيء سماء الفن العربي كله وتؤسس لفن جديد لم يكن يعرف الشرق من قبله ألا وهو فن المسرح الغنائي. في السابع والعشرين من كل عام يحتفل المسرح بيومه العالمي، ينظر إلى أركانه ويستذكر نجومه، وفي ركنه العربي يجد المسرح نفسه هو الحمامة التي قصدها أبو خليل القباني وهو يلحن الأغنية الأشهر في الفلكلور السوري "يا طيرة طيري يا حمامة".
يسترجع المسرح بدايات ذلك الشاب أبو خليل القباني في أول عرض مسرحي له في عام 1871 عندما قدم مسرحية "الشيخ وضاح ومصباح وقوت الأرواح"، وكانت انطلاقته الحقيقية في الريادة. هنا دمشق انطلق منها المسرح الغنائي إلى العالم العربي بواسطة أبو خليل القباني المولود في العاصمة السورية دمشق عام 1833 باسم "أحمد أغا آقبيق".
بعد ما قدم عروضا مسرحية وغنائية من أبرزها: "هارون الرشيد"، "عايدة"، "ناكر الجميل"، الخطوة التي دفعت أبو خليل القباني لهذه الانطلاقة هي إعجابه بما كان يقدم في مقاهي دمشق كالحكواتي، ولقاءه مع الفرق التمثيلية التي كانت تقدم العروض الفنية في مدرسة العازرية في منطقة باب توما بدمشق القديمة.
ــ هجمة المتشددين الشرسة علي أبو خليل القباني
عام 1879 أسس أبو خليل القباني فرقته المسرحية وقدم ما يقارب أربعين عرضا مسرحيا وغنائيا. قابلته صعوبات من متشددين حاربوه وحاربوا الفن بحجة تحريم الفن، ما أدي لتوقف عروضه لفترة من الزمن.
ومن الصعوبات والتحديات التي واجهت أبو خليل القباني، يذكر كامل الخلعي في كتابه "الموسيقي الشرقي": إنّ وجود التمثيل في البلاد السورية مما تعافه النفوس الأبية، وتراه على الناس خطباً جليلاً ورزءاً ثقيلاً، فيُمثّل على مرأى من الناظرين ومسمع المتفرجين أحوال العشاق، وما يجدونه من اللذة في طيب الوصال بعد الفراق.
ويذكر الباحث السوري "يوسف شرقاوي": عزا بعض الدارسين غضب الرجعيّة إلى أسباب أخلاقية، إذ أهاج المشايخ ما تضمّنته روايات القباني من مشاهد غرامية وحوارات الحب. لكن آنذاك كانت خيمة "الكراكوز" منتشرة بكثرة في دمشق. وقيل إنّ "مدحت باشا" حين وُلّي على المدينة قام بجولة ليتفقد أحوالها فلفت نظره كثرة المقاهي التي تُمثّل فيها حكايات "خيمة كراكوز". وانتقد وجهاء دمشق على هذا المستوى المنحط ولامهم لإقبالهم على مشاهدة هذه المناظر المخجلة.
ولأن البقاء للأفضل عاد بفنه من جديد ووضع نصوصا للمسرح العربي في عروضه التي لاقت نجاحا كبيرا، ليسافر بعدها مع مجموعة ممثلين، فنانين وفنانات سوريين إلى مصر حاملا معه عصر الإزدهار للمسرح العربي، وكذلك المسرح الغنائي العربي الذي أسسه ليفتتح أول مسرح في القاهرة، بعرض مسرحية "أنس الجليس" 1884.
بقي أبو خليل القباني في مصر سبعة عشر عاما، يتنقل بين مدنها ومحافظاتها برفقة فرقته ليعرضون هنا وهناك، لتأتيه دعوة لتقديم عروضه في معرض شيكاغو الدولي. وأقام في المدينة الأمريكية لمدة ستة أشهر دون فيها مذكراته المسرحية.
سافر أبو خليل القباني إلى عديد من البلدان لاقتباس نصوص من الأدب الغربي، حيث قدم عروضا مسرحية عربية وعالمية، ليعود بعدها إلي بلاده عام 1900، حيث ابتعد عن المسرح واكتفى بتقديم الحفلات الغنائية، قبل أن يزهق روحه مرض الطاعون، ويهدي إلى هذه الدنيا اسمه، الذي يرفض المسرح إسدال الستار عنه حتى ولو بعد عقود.