إحنا اللى بدعنا الكُفت.. قصة مصنع البصل فى سوهاج!
فى بلادنا مثل شعبى قديم نردده باستمرار ومانعرفش معناه.. أو بالأحرى إحنا مابندورش ورا معناه.. بنقوله فى لحظة ما دون أن نفكر فيه.. المهم إنه موجود ومتكرر ولم يمت.. هذا المثل يقول ببساطة «ده بيعرف الكُفت».. و«الكُفت» يا سادة لا علاقة له «بالكفتة» وعمايلها.. ولا بأى من المشويات.. لكن له علاقة بالأكل وبالتحديد بأحد أهم مكونات الأكل المصرى وهو البصل.
و«الكُفت» الذى نعرفه وندمنه ونبدعه أحيانًا هو ذلك الكائن الشفاف الرهيف الذى يقع ما بين كل طبقة من طبقات البصل، وعشان ما أطولش عليكم ونخُش فى المفيد.. أجمل ما فعلته مبادرة «حياة كريمة» فى ناس بلادى أنها حرضتهم على الأحلام مجددًا وذكرتهم بحكايات ومشاريع ظنوا أنها ماتت، لأن أحدًا لا يريد أن يفعل شيئًا يخدم البلاد والعباد ويرفع من شأنها مجددًا.
ولما بدأت ساعة العمل فعلًا ووجد الناس فى قرى بلادى المنسية فى جنوب مصر أن مشروعًا حقيقيًا لنجدة الريف المصرى وإفاقته من غيبوبته يجرى على قدم وساق أمام عيونهم.. كانوا أن فتحوها على اتساعها.. وعلى مدد الشوف شافوا بلدًا جديدًا وعظيمًا يليق بالأرض التى أنجبت «مينا» موحد القطرين.
رسالة مينا التى نحفظها جيدًا منذ آلاف السنين أن قراره بالوحدة بين الشمال والجنوب كان بغرض إتاحة الفرص للبشر ليسعدوا ويعمروا ويحققوا رسالة الله فى أرضه.
أحفاد مينا، الآن، يستعيدون أحلامهم وبعضها بسيط فعلًا، لكنه وبسبب الإهمال الذى ساد لسنوات أصبح مجرد التفكير فيه معجزة بحد ذاتها.
من بين هذه الأحلام أن يستمع الرئيس عبدالفتاح السيسى لقصة مصنع بصل سوهاج الذى دمروه، من بين ما تم تدميره من مشروعات قليلة عظيمة كانت موجودة على تلك الأرض تنتج ذهبًا خالصًا وتدخل لبلادنا عملة صعبة، وتفتح بيوت الآلاف من الذين شردتهم قرارات الخصخصة فى وقت سابق.
تقول القصة باختصار إن محافظة سوهاج لم تعرف التصنيع كثيرًا.. لكنها وفى زمن تالٍ لمحمد على عرفت مصنع «النيلة» وقد تم إنشاؤه لخدمة مصانع النسيج بإنتاج «النيلة الزرقاء» ولم يبق لنا إلا شتيمة الأمهات «روح جاتك نيلة.. أو غور يا منيّل».. ثم كان مصنع الغزل والنسيج.. ثم وفى عام ١٩٦٠ قرر جمال عبدالناصر إنشاء مصنع البصل فى منطقة ما بين النيل والسكة الحديد، تقع خلف المدينة الطبية حاليًا، ويقال لها «نجع مطرود».. ذلك المصنع الذى كان يعمل به ما يقرب من خمسة آلاف عامل كان ينتج البصل المجفف الذى يتم تصديره إلى ٦٩ دولة أجنبية، فيما يتم تصدير زيت قشر البصل الذى يتم استخدامه فى صناعة العطور والأدوية إلى دول أوروبية عديدة، فى مقدمتها ألمانيا وفرنسا والمجر.. وكان يباع اللتر الواحد منه بثلاثة آلاف دولار.
هذا المصنع الذى أقيم على مساحة سبعة عشر فدانًا كان يخدم آلاف المزارعين الذين كانوا ينتجون البصل، وكان يتم زواج بناتهم على موعد حصاده بعد أن يتسلموا أموالهم من المصنع.. كنا نعرف الطريق إليه ونحن صغار فى رحلات مدرسية.. وكنا نفتح أفواهنا مشدوهين ونحن نشاهد الصنايعية يعملون، فيما يشرح لنا الأستاذ أن مواشينا فى البيوت أيضًا تستفيد من هذا المصنع من العلف الناتج عن مخلفات عمليات التجفيف، ثم يضيف ضاحكًا «البهايم يا بهايم بتاكل العلف اللى بيطلع بعد العصر والتجفيف» ثم يستدرك «والسمك اللى فى النيل كمان بياكل من المخلفات دى.. وأحلى سمك تاكلوه اللى الصيادين بيجيبوه من ورا المصنع».
المهم أنهم بعد قرارات الخصخصة قررت شركة النصر المالكة لـ٩٠ بالمائة من أسهم المصنع بيعه.. واشتراه أحد المستثمرين بغرض بيع أرضه بالمتر.. لكن محافظ سوهاج وقتها أوقف مهزلة البيع لاشتراط عقد الشراء بناء مصنع بديل.. ثم كان أن هجروا العمال.. وأوقفوا الإنتاج رغم أنهم باعوا فى سنة واحدة إنتاجًا بـ١٣ مليون جنيه فيما كان المستثمر قد اشترى المصنع كله بـ٢٧ مليون جنيه فقط.
وفى عام ٢٠٠٨ توقف المصنع تمامًا.. وخربت بيوت العمال والمزارعين.. ولم يتم إنشاء المصنع البديل.. من سنة إلى أخرى يحاول السماسرة بيع أرض المصنع قطعة قطعة ويتلاشى حلم إنشاء مصنع جديد، مرة يقولون إن وزارة الزراعة ستقيمه بقرض من بنك التنمية والائتمان الزراعى.. ومرة يقولون «مستثمر أجنبى» وإنه سيقام فى غرب جرجا.
وتتكرر المرات.. ولا شىء يحدث حتى توقف أبناء سوهاج عن الحلم تمامًا.. الآن هم يستعيدون أحلامهم ومن بينها بحث موقف المصنع القديم وإعادة تشغيله وإنشاء مصنع جديد يعيد للصنايعية حياتهم وللفلاحين آمالهم المسروقة ولسوهاج بأكملها- تلك البلاد التى تزرع أجمل أنواع البصل فى العالم- اسمها الذى يليق بأحفاد موحد القطرين.