وجهة نظر فى قضية بسنت
وكأن دار الافتاء تعي قسوة المجتمع على نفسه وتحديدًا على نسائه اللاتي لم يستوصي بهن أحد خيرًا كما أمر نبي الإسلام ولم يرفق أحد بالقوارير!
لذلك أعلنت دار الافتاء، منذ قرابة العام أن المنتحر ليس بكافر؛ فالفتاة ذات السبعة عشر عاما أقدمت على الانتحار الرحيم والموت الرحيم بغية الخلاص من عذابات العرف والمجتمع لا لأنها كافرة .. أدركت أنها ستموت كل يوم ألف مرة بسبب نظرات الشك والاتهام من جميع من حولها بدءًا من أقرب الناس اليها مرورًا بأقاربها وذويهم والجيران ومعارف الأهل في العمل انتهاء بسكان المدينة، بل و المدن المجاورة والناس جميعا!
الظنون آثام يهواها الناس بأهواء يميل الناس للشك لا وصولا للحقيقة بل عشقًا له وتيهاً فيه!
يتيه الناس بالظنون.. ويظنون أنهم يعرفون كل شيء وأنهم الأذكى والأمهر والأكثر فراسةً وإدراكًا و علمًا ببواطن الأمور .. فيقتلون بيقينهم هذا نساء البلاد.
فالشك المجاني داء، بل و جريمة لا براء منها ولا علاج لها.. هي سم بلا ترياق يستنزف طاقة المشكوك في أمره حتى يفقد عقله وصوابه، فيقدم على الانتحار، كما فعلت الفتاة ذات الـ ١٧ ربيعًا لتنهي عذاباتها التي لم تعد تطيقها أو تتحملها، فكان الموت رحيمًا بها.. بل وأكثر رحمة لها وبها من الحياة في ظل هذا المجتمع وأعرافه!
فنظرات الشك الجارحة لها مفعول الرصاص القاتل
الظنون تقتل فريستها في الثانية ألف مرة
وتستحيل كل دفاعات المشكوك في أمرها من إقناع من ساورتهم الشكوك في براءتهانظراتهم وتساؤلاتهم في ذاتها إدانة، وكأنهم يصدرون عليها حكمًا بالإعدام واجب النفاذ ولا يستأنف!
لذلك قامت الفتاة بالتنفيذ قبل أن يأتي الجلاد لينفذ فيها حكمه العرفي الظالم
بعد أن نصب نفسه حكمًا و قاضيًا و جلادًا!
لقد نفذت في نفسها حكم المجرمين والمجتمع عليها بنفسها تاركةً كل هذا البغض وكل هذا الجور.
لقد تركت لهم هذا المجتمع البغيض بنظراته وشكوكه ليعيش بعد موتها في خزي و عار ليوم الدين.
نعم فالمجتمع اليوم وأفراده هم القضاة والجلادون.. يمارسون جرائمهم في حق النساء بلا رحمة و لا هوادة.
بعد أن نصبوا أنفسهم حكامًا وقضاة وصار العرف السائد والأقاويل والقيل والقال أقوى ألف مرة من أحكام القضاء والمحاكم والتحقيقات.
كانت تعي الفتاة ذات السبعة عشر عاما كل ذلك وأن العدالة لن تتحقق بشأنها ولن تفيدها وسط بشر وأناس هواهم عرفي!
العرف لديهم أهم ألف مرة من القانون والتحقيقات.
والوقت الذي تستغرقه التحقيقات لإنصافها ستموت هي فيه ألف مرة و ستسمع خلاله أبشع الاتهامات والتوصيفات من هنا ومن هناك.. من هذا ومن ذاك .. من أقرب الأقربين ومن أناس لا تعرفهم ولا يعرفونها!
ستسمع تلميحات ودعوات تقتلها في الثانية ألف مرة.
فإن تنهد أحدهم ستموت هي كمدًا وحسرةً وعارًا وستطاردها اللعنات وإن حاولت إقناع الآخرين ببراءتها سيكون الفشل الذريع هو مصيرها وإن أقسمت لهم بمئة يمين لن يصدقها أحد و إن حملت كل الكتب المقدسة وأقسمت عليها لن يصدقها أحد وإن دعا أحدهم الله بالستر للولايا ستكون هي المعنية وإن لعن ذاك الزمان وبنات هذا الزمان وبنات الدهر والتكنولوجيا التي علمت البنات الفجر ستكون هي المعنية وهي المذنبة حتى وإن كانت هي الضحية!
لقد استوعبت الفتاة المنتحرة كل هذا وتشبعت به طوال ١٧ عاما أدركت خلالها أن الإناث في بلادنا لا رأفة ولا رحمة بهن.. ولا يصدقهن أحد عندما يتعلق الأمر بشيء له علاقة بالشرف والجسد وأعضاء الفتيات!
شرف المجتمع كله يضعه المجتمع على الأنثى وجسدها وابتزاز المجتمع يصب دومًا ما لديه على الأنثى وعلى جسدها!
تعاقب الإناث في بلادي لأن لهن أجسادا يرغبها الذكور! وإن رفضت الفتاة تصبح مذنبة! ويكون عقابها الابتزاز والتشهير وإن قبلت تصبح أيضًا مذنبة ويكون عقابها الابتزاز والتشهير!
فالفاعلة والممتنعة عن الفعل لديهم سواء!
الأنثى دومًا مذنبة وعاصية يلحق بها العار في كل الأحوال لمجرد أنها أنثى!
الأنثى تعاقب على أنها خلقت! و جعل الله لها جسدًا يرغب فيه الذكور!
إن تحجبت أو احتجبت أو تبرجت سيان بالنسبة لهم.
إن تغطت أو تعرت سيان أيضًا بالنسبة لهم.
هي الخاطية وهي المخطئة وهي العاصية دومًا وفي كل الأحوال.
ومهما فعلت تظل مذنبة وعليها إثم الإناث وإثم الجسد وأنها مرغوبة من الغير!
وكأن حياتها ذنب وإثم كبير! وعليها أن تدفع حياتها ثمنًا لإثم جسدها وأنها خلقت كسائر المخلوقات وأن الله قد خلقها في أحسن تقويم!
لقد انتحرت اليوم "بسنت خالد" و انتحرت من قبلها "نفيسة" في فيلم "بداية و نهاية"
وتساوت الاثنتان في المصير!
فكلاهما مذنب! أما المجتمع فهو البريء الطاهر! و هو فقط من يصدر أحكامه و يطبقها!
وبالعودة لرواية نجيب محفوظ التي جسدتها السينما في فيلم يعد من كلاسيكيات السينما المصرية نرى أن "عمر الشريف" "حسانين" شقيق "نفيسة" في فيلم "بداية ونهاية" قد انتحر هو أيضًا بعد أن أقدمت شقيقته على الانتحار والتضحية بنفسها من أجل سمعته ومستقبله هو!
فقد أراد "نجيب محفوظ" تحقيق العدل والعدالة بين الذكر والأنثى وأن يساوى بينهما في المصير وأن يحقق القصاص والعدل.. فكما لحق العار بنفيسة فقد لحق العار أيضًا بأخيها ومصير كليهما كان الموت.
فما هو يا ترى مصير طلاب الأزهر اليوم الذين فبركوا صورًا للفتاة البريئة؟ هل سيكون مصيرهم الموت؟ هل سيتحقق القصاص فيهم لأن في القصاص حياة؟
لقد قتل هؤلاء الشباب بتزويرهم وتهديدهم وتشهيرهم وابتزازهم وترهيبهم وإرهابهم المعنوي والنفسي والعصبي الفتاة البريئة ذات الـ ١٧ ربيعًا.
نعم قتلوها واغتالوها معنويًا ونفسيًا وعصبيًا، فانتحرت لتتخلص من كل هذا العار وكل هذه الضغوط التي لم تتحملها.
نعم لقد قتلها الجميع.
إنه ليس انتحارًا يا سادة.. بل جريمة قتل جماعية نكراء واغتيال معنوي.
ارتكبها الطلاب المبتزون وشاركهم في جرمهم هذا العرف والمجتمع بأسره.. فهل سيتفرق دم "بسنت خالد" بين كل هؤلاء و يضيع؟
هل بعد قتلها "دفعها للانتحار" لم يقتل ويميت كل هؤلاء الناس جميعا كما يقول كتاب الله فيمن يقتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض؟؟!
كيف سيتحقق العدل والقصاص في تلك الجريمة؟
وكيف تحقق العدل والقصاص في الجيران الذين ألقوا بسيدة من الدور السادس بسبب داء الحشرية والقانون العرفي ودعاوى الشرف والحسبة التي تدفع للقتل أو الانتحار؟!
وأذكر هنا أيضًا عندما قام مغيبون مستهترون بدهس فلاحة في الطريق في رواية ونص آخر لأديبنا العظيم أديب نوبل "نجيب محفوظ" ونصه الخالد "ثرثرة فوق النيل" و الذي تحول أيضًا لفيلم يعد من أساطين السينما المصرية.
فعندما أفاق أحد الرجال في الفيلم "عماد حمدي" وأدرك ما حدث.. وأن رفاقه قتلوا ودهسوا الفلاحة وبالتالي أصبح هو شريكًا لهم في جرمهم.
صرخ وظل يصرخ حتى نهاية الفيلم قائلا: "الفلاحة ماتت ولازم نسلم نفسنا".
واليوم وبعد قتل "بسنت خالد" انتحارًا.. وبعد رمي سيدة أخرى من الدور السادس!
يكون على جميع أفراد هذا المجتمع تسليم أنفسهم جميعًا للرحمة والعدالة والقصاص
لتستمر الحياة ونوقف القتل والاغتيال المعنوي والإرهاب والترهيب بمختلف أنواعه.. ولكي تنتهي الثرثرة- و للأبد- من فوق نيلنا الخالد.