عن «الزير» و«النواية» والأيام العفشة.. «مواسير» النجاة فى شوارع الصعيد!
زمان لما كان حد بيموت فى نواحينا واحنا صغيرين كنا نسمع سيدات القرية يتهامسن «كان عنده العفش».. ربنا رحَمُه!!
وقتها لم نكن نعرف ما هو المقصود بالمرض «العفِشْ»، كنا نتخيله وحشًا أسطوريًا لا ملامح له.. ربما وضعنا له نحن الأطفال ملامح مرعبة من عندياتنا.. وكنت أتخيله كلبًا ضخمًا يهجم على الرجل العجوز ينهش لحمه حتى يموت.
بعدها بسنوات قليلة تطور الطب.. وأصبح عندنا أطباء متخصصون فى تلك «الأمراض العفشة».. وكان أغلبهم يأتى من أسيوط.. ربما لأن معظمهم كانوا أساتذة بجامعتها، حيث لم تكن فى سوهاج جامعة للطب أو حتى فرع من أسيوط.. وكان مجرد الحجز لدى طبيب من هؤلاء معجزة فى حد ذاتها. وعندما كبرنا قليلًا وجاء زمن مبارك.. عرفنا أكل الرومى والكبدة المستوردة. والفراخ المستوردة.. والجبنة الرومى واللانشون.. واستراحت سيدات المنازل فى ريفنا من تربية «الفروج» فى الأعشاش.. ولم يعد هناك «كُن» واحد فى أى سطح.. قليلات من ظلت بيوتهن على حالها القديم.. تجلب الجواميس والأرانب والحمام فى أنصاص «العلاوى المكسورة».. واختفى «الزير» الذى كنا نشرب منه الماء زلالًا فى حر أغسطس الصهد.
اختفت الأزيار مثلما اختفت «فواجير الرايب» وعلاوى الجبن القديم- والمش طبعًا- وبحثنا عن الماء العذب- وقيل لنا- إن هناك محطات صرف صحى فى الطريق وجاءوا بالمواسير وحفروا لها المصارف فى كل مكان حتى صار نصف قرانا مفتوح البطون.. لا الصرف انتهى ولا المواسير تم تركيبها، والزير اختفى بعدما اختفت الطلمبات أيضًا.
كانت مياه «الطلمبات البلدية» غاية فى النظافة والعذوبة وفجأة تبخرت عذوبتها وحل محلها طعم أصفر كريه، وكانت المياه الجوفية تحركت تحت البيوت واختلطت بما تنضحه «القيسونات» التى امتلأت بها بيوت الريف المصرى من شماله إلى جنوبه.
ويومًا بعد الآخر انتشرت فى ربوع مصر.. مستشفيات الأورام.. وأصبح من النادر ألا تجد بيتًا فى صعيدنا وليس به مريض بالسرطان أو الفشل الكلوى..
وكان أن ألقينا بالتهمة على أيام السادات وتجار الانفتاح وعلى مبيدات الزراعة.. وأكثرها مغشوش قطعًا..
بعينى رأيت مكن المياه يقذف بها سوداء تمامًا من الترع إلى الزرع.. ونشرت ذلك مصورًا على صفحات جريدة «صوت الأمة» فى بداية الألفية.. بعدها بسنوات قليلة وصلتنى مستندات تؤكد عدم مطابقة المواسير التى يتم تركيبها فى الصرف.. ولم أستطع النشر لأسباب تخص الجريدة التى كنت أعمل بها.. ومنع النشر فى جريدة أسبوعية كانت شهيرة وقتها.. ثم نشرت نفس المستندات فى جريدة كان يرأس تحريرها الزميل مصطفى بكرى.
ولم يحاكم هؤلاء الذين استوردوا أو صنعوا تلك المواسير، بل ذهب محمد إبراهيم سليمان بكل من كتب فى ذلك الموضوع إلى النيابات.. وأشارت تحقيقات صحفية متتالية، لسنوات متتالية، إلى مصانع بعينها تلقى بمخلفاتها فى النيل.. وتاهت الحقيقة.. التى كنا نبحث عنها.. من أين تجىء كل هذه الأمراض.. هل هى المياه الملوثة؟.. هل هى المواسير؟.. هل هو الصرف الذى لم يعد صحيًا؟.. وبدلًا من البحث عن إجابة.. راح كل واحد منا يبحث عن علاج لأحد أقربائه من ذلك المرض العفش.
منذ أيام رحلت والدتى بعد صراع عامين وأكثر مع الفشل الكلوى.. ربما أحتاج لشهور لأكتب عن تفاصيل عذاباتها مع عملية الغسيل التى كانت تحتاجها لثلاث مرات أسبوعيًا.. ومثلما راح الملايين من أبناء شعبنا الطيب ضحية تلك الفيروسات والبكتيريا اللعينة ذهبت أمى.. ومن قبلها أصيب آلاف النساء فى بلادنا بتشوهات مرعبة أدت إلى وجود أطفال مبتسرين.. وفى ذلك كله أصابع الاتهام تشير إلى ذلك «المدعوق» اللى اسمه الصرف الصحى.
منذ أربع سنوات طلب منى أبناء قريتى، وأنا فى زيارة لأسرتى، أن أبحث معهم عن وسيلة لتركيب الغاز الطبيعى فى منازلهم، فقد وصل أمر حصولهم على أنبوبة بوتاجاز، وخاصة فى الشتاء إلى حد «القتل».. نعم إلى حد القتل.. فالكميات المحدودة التى كانت تصل إلى المستودعات بعد تهريب كميات لا بأس بها للسوق السوداء لم تكن تكفى قطعًا لحاجة الأهالى.. وكان من الطبيعى أن يحدث تزاحم لحظة وصول عربة الأنابيب إلى المستودع. فيما يقف المئات جوعى يمدون الأيادى فى عراك حقيقى للفوز بواحدة.. وكان الأمر من الصعوبة فى أيام الشتاء، حيث يستولى أصحاب مزارع الفراخ على كميات لا بأس بها من هذه الأسطوانات، ووصل الأمر إلى ضرب النار.. وأنتم تعرفون ماذا يعنى «سحب الآلى» فى وجوه بعضنا البعض فى صعيد مصر.. ولقد حدث بالفعل أن مات خمسة أشخاص فى لحظة فى معركة من تلك المعارك..
وقتها تحدثت إلى مسئول مهم بشركة الغاز، فكان أن أخبرنى بأنه على استعداد كامل لتوصيل الغاز إلى كل منزل فى قريتى وبالتقسيط المريح، شريطة أن تكون القرية قد انتهت تمامًا من «الصرف الصحى».
مرة أخرى أجدنى فى مواجهة «لعنة الصرف غير الصحى» وكان أن تواصلت مع مكتب الوزير المحافظ د. أحمد الأنصارى، محافظ سوهاج، وقتها، فأرسل لى موقف قريتى من الصرف، وأرسل لى مسئول شركة الصرف نسبة تحقيق الأعمال، وقد كانت أقل من سبعين فى المائة تقريبًا.
الآن انتهت عمليات إنشاء وتجهيز محطة الصرف فى قريتى.. وأعمال محطة المعالجة فى أولاد سلامة.. وانتهت تقريبًا عمليات تركيب مواسير الصرف فى الشوارع الداخلية وبقيت أيام قليلة وينتهى ذلك الكابوس الذى عشنا فيه لثلاثين سنة كاملة وربما يزيد.
شهور قليلة ويدخل الغاز إلى قريتى أيضًا.. وكل ما أتمناه.. أن يجد أهلى كوب ماء نظيفًا يشبه ذلك الماء الذى كنا نشربه من «الزير»، وأن تختفى قوائم الانتظار لمرضى الغسيل الكلوى، الذين رأيت كيف يعانون من أجل توفير سرير خالٍ فى مستشفى أو مستوصف خيرى شيده الأهالى بفلوسهم القليلة.. أتمنى ألا أسمع عن أحدهم وقد هاجمه ذلك «الوحش» الذى أنهك الأكباد والعباد.
لأننى توجعت.. وما زلت.. لأننى بكيت وسأظل.. لأننى احتجت ولم أجد من يغيثنى.. ولأننى أحد أبناء تلك البلاد البعيدة التى تركوها نهبًا للأمراض والفقر والجوع لسنوات.. أعرف جيدًا قيمة ما تفعله مبادرة حياة كريمة وما تفعله الحكومة حاليًا فيما يخص هذا الملف الذى أعده الأخطر على الإطلاق فى معركتنا مع الماضى.
الإرهاب مش مجرد شخص ماسك بندقية ويصوبها إلى رءوسنا وقلوبنا.. هناك أنواع أخرى من الإرهاب عرفناها فى الصعيد أشد وأقسى وأكثر كلفة وخطرًا، وفى ظنى أن الإهمال المزرى الذى طال ملف مياه الشرب هو أحد أهم أنواع الإرهاب، ويوم أن ننتهى منه.. نكون قد انتهينا فعلًا من هؤلاء الذين حولوا أيامنا وشوارعنا وأجسادنا إلى جحيم لا يطاق.
القصة مش قصة شوية مواسير ومقاول ونت الشوارع.. القصة أكبر من ذلك بكثير.. فكوب ماء نظيف يساوى حياة كاملة نحن نستحقها قطعًا.