وما دام بنزرع.. يبقى هنصنّع
غادرت قريتى فى جنوب مصر عام ١٩٨٢.. وقتها لم يكن أمامنا من طرق للوصول للقاهرة سوى قطار الدرجة الثالثة.. ذلك القطار الذى يقف لكل من يشاور له، كما يقول أهلنا فى الصعيد.. كنا نتونس بحكايات الصحبة ونداءات الباعة الذين يركبون من محطات المحافظات وبكاء الأطفال وغناء رواة السيرة من الحفظة الذين قد يتصادف وجودهم فى القطار.. ومهما كان البرد قاسيًا فزحمة الركاب الغلابة كفيلة تمامًا بنشر الدفء فى العربات.. هذه الزحمة المحببة الطيبة كانت تنسينا عدد المحطات التى وقف فيها القطار.. وكم مضى من زمن على ركوبنا بداخله.. وفى العادة لم تكن تقل عن ١٦ ساعة وربما تزيد.. فغالبًا ما كانت العربات تتعطل لأى سبب أبسطها أنه ركن فى انتظار مرور المجرى.. الذى لم نكن نعرف أنه نسبة للمجر.. بل كنا نطلق على أى شىء فائق السرعة لقب المجرى حتى ولو كان لاعب كرة من أمثال مصطفى عبده.
لم نكن نعرف السفر بالطائرات.. فلا مطارات فى بلادنا فى ذلك الوقت سوى المطار الحربى فى أسيوط.. ولم نكن نملك سيارات خاصة قطعًا.. ولم يكن زمن الميكروباص قد هل.
وأول ما عرفنا طريق الصحراوى بديلًا للقطار..
علمنا أنه يمر بعيدًا عن الناس والبيوت.. وأنه طريق للموت.. لحصاد الأرواح.. فلم نكن نلجأ إليه إلا نادرًا.
كانت عربات البيجو سبعة راكب قد انتشرت مع أغنيات أحمد عدوية.. معظمها جاء من المنصورة.. ومعظمها لم يكن جديدًا.. عربات مستعملة نحشر فيها بالساعات.. وخدمات الصحراوى قليلة أو بالأحرى غير موجودة.. لا إسعاف.. ولا مطافى ولا رجال شرطة أو جيش.. وطبعًا ماكانش فيه رادار.. وكل واحد يضرب اللى على هواه وعلى مصر يا أسطى وانت ونصيبك.. إن خلص البنزين.. أو فاجأك قطع فى الطريق الذى كان فردة واحدة.. رايح جاى يعنى.. وقطعًا لم تكن عيوننا ترى الأخضر أبدًا.
منذ أيام.. حكمت الظروف واضطررت للذهاب إلى سوهاج عبر الطريق الصحراوى الغربى.. طريق الموت سابقًا.. فقد علمت من أحد أقاربى أن الطريق الشرقى مغلق للإصلاح.. وظروفى تحتاج إلى وقت أقل.. لا وقت لدىّ ليضيع فى تحويلات وطرق لا أعرفها.. وكان أن استجبت لنصيحة مع تحذير بسيط.. الطريق لم يكتمل بعد.. لكنه حتى المنيا قطعة من أوروبا.
الطريق الذى لم يكن سوى فردة واحدة.. أصبح ست حارات.. وسيارات الموت التى كنا نسميها بالتريلات لم يعد بإمكانها أن تمر من نفس حارتك.. القطعات المفاجئة فى الأسفلت لا وجود لها بعدما أصبح الرصيف أسمنتيًا.
من الجيزة وحتى المنيا أنت بالفعل فى إحدى دول أوروبا.. أو على الأقل دول الخليج التى كنا نسمع عن جمال طرقها المفتوحة ونتحسر على حال بلادنا كلما عاد قريب لنا من الخارج وحكى لنا.
كنت منشغلًا بالطريق.. لكن جمال الأخضر خطفنى.. بينى وبين الزرع محبة لا تضاهيها محبة أو عشق.. كلما لامست عينى تلك المزروعات شعرت بأن كل أوجاع الدنيا تذوب فى جسدى.. أحس بالنفس يخرج من صدرى منشرحًا.
طريق الصعيد الصحراوى وحتى وقت قريب كان مجرد فضاء.. صحراء تسلم صحراء من بعدها صحارى.. كانت تلك الجبال الشاهقة مثار ضحكات أولادى الذين كانوا يسألون عن موقع المطاريد وأسرارهم وهل هم يعيشون فى تلك المغارات حتى الآن أم انتهى عصرهم.
تأخر الاهتمام بطريق الصعيد مثلما تأخر كل شىء فى الصعيد.. حتى ناهبو الأراضى لم يذهبوا إلى هناك إلا منذ فترة قريبة بعدما لم يعد هناك شبر لنهبه فى طريق الإسكندرية.
نسيت ذلك كله وأنا أرقب الأخضر يزاحم الأخضر على اليمين وعلى اليسار.. محطات البنزين موجودة فى مدخل كل محافظة تقريبًا وعلى الجانبين.. بعض الصعايدة افتتح عددًا من الكافيتريات.
الأطفال يحملون أقفاص الطماطم على عربات النقل فى طريقها إلى الشوادر.. رشاشات المياه وألواح الطاقة الشمسية تحتل عشرات الآلاف من الأفدنة.. لا حد للأخضر على مدد الشوف.. بشائر نخيل البارحى والمجدول والمانجو تتزين لمواسم التزهير.
حكيت بفرح لأصدقائى فى سوهاج.. بعضهم امتلك أرضًا بالفعل فى المنيا.. يشكون من بطء إجراءات لجنة المهندس شريف إسماعيل لكنهم مطمئنون.. ترهقهم تكاليف النقل وأسعار المبيدات.. وأغلبها مغشوش.. لكنهم يتعشمون فى رقابة الدولة وينتظرون تدخلها فى هذا الملف.. بعضهم لم يسمع بأن مجمعًا ضخمًا للبتروكيماويات قد تم إنشاؤه منذ فترة قريبة.
نفس الشكوى من بطء إجراءات تقنين أوضاع المزارعين موجودة فى سوهاج وقنا أيضًا، بعضهم قال إن اللجنة لا تجتمع بالشهور دون سبب معلوم.. هم يريدون تجريب زراعات غير تقليدية وتعميم الطاقة الشمسية وإقامة مشروعات للثروة الحيوانية، لكنهم يخشون أن تداهمهم فوضى عدم التقنين بعدما يدفعون دم قلبهم.. يريدون العمل وهم مطمئنون لمستقبل أولادهم بعدما دفعوا كل مدخراتهم فى تلك الأراضى.
وبعضهم يتعرض لنوبات إحباط أيضًا.. أحد الجالسين فى المندرة سمعنى وأنا أتحدث عن الطريق الصحراوى والمحاور الجديدة فى مدخل كل مدينة وعن افتتاح الرئيس محور البلينا عبر الكونفرانس قبل أيام، فقال بحدة: «يا جماعة هوه إحنا هناكل طرق وكبارى.. صحراوى إيه وكونفرانس إيه.. إحنا عايزين مصانع نشتغل فيها عشان نعرف نلاقى لقمة ناكلها مش هناكل أسفلت إحنا!!»، وكان أن قلت: مادام بنمشى على طريق سليم.. وعلى جانبيه أفدنة نزرعها.. يبقى هنصنع أكيد.. ما دام بنزرع.. يبقى هنصنع!!