التفاصيل الكاملة لتحريف وتصويب أعمال نجيب محفوظ
في شهر فبراير من عام 1995 كتب وزير الثقافة الأسبق حلمي النمنم مقالا عن تحريف مكتبة مصر لأعمال نجيب محفوظ، ورصد النمنم في مقاله كيف أن هناك 149 تغييرا في رواية السمان والخريف، و88 في بداية ونهاية، يقول حلمي النمنم في مقاله:" شملت بعض التغييرات في أعمال نجيب محفوظ حذف بعض الجمل أو العبارات وأجزاء أخرى من الحوارات كما تم استبدال بعض الكلمات بمرادفات لغوية أخرى".
ويواصل: "ويمكننا القول أن التغييرات التي وقعت لم تكن تستهدف تغيير المعنى العام لرواية ولكنها تؤدي إلى تغيير معنى بعض الفقرات وإهدار جماليات النص الأدبي.
وبحسب النمنم أنكر السحار مدير النشر في مكتبة مصر أن يكون قد تم أي تغيير في أعمال محفوظ، وحينها واجهه النمنم ببعض النصوص قال:" بالطبع كانت تسقط بعض الكلمات فكنا نتصل بالأستاذ نجيب ونخبره بأننا سنكمل ما سقط فلم يكن يمانع، لكن الأستاذ نجيب نفى ذلك بحدة قائلا:" لم أستأذن في ذلك أبدا، ولم أستشر في شئ وليس من المعقول بالمرة أن يقول أحد لي سنكمل بعض الكلمات وأوافق".وفسر نجيب محفوظ التغييرات بأنها أخطاء الطباعة الحديثة، لان الطباعة قبل ذلك كانت تتم بطريقة الجمع التصويري، وكانت أكثر دقة من الآلات الحديثة التي تتميز بأنها كثيرة الأخطاء، وربما تكون الطبعات الجديدة "مش بتفوت" على الحاج سعيد السحار خصوصا أن التغيير الذي وقع اقتصر على المساس بتصوير بعض المواقف.
وكان السؤال لماذا صمت نجيب محفوظ على التغييرات التي تمت على رواياته، والإجابة تقولها أم كلثوم نجيب بمحفوظ: "لم يصمت والدي وكان رافضا وبقوة لهذا الامر، ولكن كان هناك جميل للسحار على والدي لأنه كان قد نشر له ووالدي كان صغيرا حينها.
أما تفاصيل النشر لدى السحار فذكرها جمال الغيطاني في كتابه "المجالس المحفوظية"، يقول نجيب محفوظ:" عندما شكل عبد الحميد السحار دار النشر "لجنة النشر للجامعيين"، اختار ثلاثين قصة فقط في مجموعة "همس الجنون"، أما قصصي الأخرى فلم تصدر في كتب، لا تزال في مجلات، وطلب السحار مني أن أدعو جميع الادباء الذين كانوا يتقدمون معي إلى الجوائز، هكذا نشر باكثير وغيره، وذكر محفوظ أن رواية سعيد السحار لما قاله في مذكراته عن الثلاثية فهي رواية غير دقيقة، حتى أنه نسي دور شقيقه عبد الحميد جودة السحار"، أما روايه عن نشر الثلاثية فغير صحيحة".
وانتقلت أعمال محفوظ من حينها لدار لجنة النشر للجامعيين والتي تغير اسمها إلى مكتبة مصر، ونشر نجيب أعماله فيها، وما بين كل طبعة وطبعة كانت تحدث بعض الاختلافات، ولكن على مدار السنين أصبحت هذه الاختلافات تحريفا كبيرا، ويكفي أن نعلم أن مكتبة مصر نشرت أعمال محفوظ لمدة تصل إلى 60 عاما، وقبل رحيله بعام واحد انتقلت الاعمال لدار الشروق.
وبعد انتقال الأعمال المحفوظية من مكتبة مصر للشروق كان الكثيرين يظنون أن الشروق ستطبع من المخطوطات الأساسية، ولكن معظم كتب نجيب محفوظ لا توجد مخطوطاتها الأولى، بحسب قول أم كلثوم نجيب محفوظ، وبالتالي فربما تكون الشروق طبعت بناء على الطبعات الخاصة بمكتبة مصر، أي أن الكتب طرحت بنفس الاخطاء إن لم تزد، وتؤكد أم كلثوم نجيب محفوظ هذا الأمر وتزيد أن هناك مخالفات خاصة بالشروق أيضًا لتحريف أعمال نجيب محفوظ، فهناك كتاب اسمه "مسرحيات" لأن مسرحيات كانت جزء من مجموعة قصصية كاملة وتم فصلها وطرحها في كتاب تحت هذا العنوان.
ولا ينسى أحد كم الضجة التي أثيرت حول تغيير عنوان عبث الأقدار لعجائب الأقدار وغيرها.
وتثمن أم كلثوم نجيب محفوظ لجنة ديوان التي سوف تراجع أعمال نجيب محفوظ كاملة، ومقارنتها بالطبعة الاولى لكل كتاب بعد ضياع المخطوطات الرئيسية للأعمال، وبالتالي فإن اللجنة سوف تعقد مقارنات بين ما نشر في أول طبعة، وبين ما تم تغييره وتبديله من أحرف وكلمات ومرادفات وجمل وغيرها.
وعن هذا الأمر تضيف أم كلثوم نجيب محفوظ: “لجنة ديوان تريد إصلاح ما تم إفساده بدون علم نجيب محفوظ، وبالتالي هم إصلاح للعبث الذي تم، وهناك هجوم عليهم لأن الجميع لا يعلم بما تم تغييره وتبديله في أعمال محفوظ، ولو المخطوطات الأساسية الأولى كانت موجودة لما كانت هناك لجنة من الأساس”.
الدكتور حسين حمودة أستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة وصديق أديب نوبل وأحد أعضاء لجنة ديوان لمراجعة أعمال محفوظ كتب منشورا على صفحته الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي"فيس بوك"، قال فيه" لأنني قد وافقت على أن أكون مشاركا في تصويب الأخطاء في أعمال الأستاذ نجيب محفوظ، ولأن بعض الأصدقاء والصديقات من الصحافة سألوني وسألنني عن حدود هذه المشاركة، ولأن بعضهم قد استخدم تعبير "تنقيح" الطبعات الجديدة، أو تعبير "تحريف" في بعض الطبعات السابقة.. أرجو أن تسمحوا لي بتوضيح بعض النقاط:
ـ الأمر لا يتصل بأي تنقيح... تعبير التنقيح يشير فيما يشير إلى "التشذيب" أو إلى "التعديل" أو إلى "إعادة الصياغة"، بما يعني التدخل في نصوص كتبها الأستاذ نجيب.. وطبعا هذا الأمر غير وارد على الإطلاق.
ـ بخصوص الطبعات السابقة.. هناك ثلاث تجارب اسمحوا لي أن أتوقف عندها:
التجربة الأولى:
في السنوات الأولى من هذه الألفية، كنت أجهز كتابا عن روايات الأستاذ جميعا (باستثناء الروايات التاريخية الثلاث المبكرة)، وقد اعتمدت نسخ طبعة "مكتبة مصر"، ولاحظت أن الطبعات المتأخرة من هذه الدار بها أخطاء نحوية، المسؤول عنها هم المصححون الذين لا يعرفون القواعد، ولم تكن هذه الأخطاء موجودة في الطبعات المبكرة التي صدرت عن الدار نفسها.. وقمت بتصويب هذه الأخطاء، في قوائم وصل عددها إلى ثلاث وعشرين صفحة (فولسكاب).. وقد عرضتها على الأستاذ نجيب، وبتهذيبه الشديد المعهود سألني عما إذا كان بإمكاني أن أسلمها للأستاذ "صلاح" في مكتبة مصر، لتصويب هذه الأخطاء في الطبعات القادمة.. وبالفعل في اليوم التالي ذهبت إلى المكتبة وقدمتها للأستاذ صلاح، وأخبرته أن الأستاذ نجيب طلب أن أوصلها له، وأنه يرجو القيام بهذه التصويبات خلال الطبعات التالية (ومن الطريقة التي رمى بها الأستاذ صلاح "ملف الأوراق" على المكتب، راودني إحساس أنه لن يفعل هذا)..
التجربة الثانية:
حدثت بعد وفاة الأستاذ .. كنا نلتقي، مجموعة من أصدقاء الأستاذ، وأذكر منهم الشاعر عبدالرحمن الأبنودي، والأستاذ جمال الغيطاني، والشاعر عماد العبودي، والأستاذ نعيم صبري، والمحامي مجدي يوسف، والدكتور زكي سالم .. كنا نتجمّع في أحد أماكن لقاءات الأستاذ السابقة، وقد اتفقنا على أن نحافظ قدر الإمكان على "قعدة الأستاذ"، وعلى أن يظل هو حاضرا معنا، ولكن بما كتب... وقد اخترنا لتحقيق هذا أن نقرأ بعض أعماله، واتفقنا على أن نبدأ بـ "أحلام فترة النقاهة".. وقد كنا، في تلك الجلسات نقرأ النصوص ونتحاور ونتناقش حولها، وقد لاحظنا أن هناك بعض الأخطاء في نصوص "الأحلام".. وقد كان الأستاذ، قبل جمعها في كتاب، يرسل نصوصها متفرقة إلى مجلة "نصف الدنيا" لتنشر تباعا.. وفي تلك الفترة كان معظم النصوص بخط الأستاذ الذي لم يكن كامل الوضوح بعد الحادث الذي تعرض له، وقبل أن يوافق، بصعوبة، على أن يملي نصوصه على "الحاج صبري".
وخلال قراءتنا ومناقشاتنا، كنا نقوم بتصويب بعض الكلمات وعلامات الترقيم.. وقد استمر هذا لجلسات ثلاث لم نستطع أن ننجز فيها سوى عدد من الصفحات، لأن الحوار حول النصوص الغنيّة القابلة للنظر إليها من زوايا عديدة، كان يستغرق معظم الوقت.. ولم يكتمل المشروع لأسباب متعددة.. وأتصور أن القيام بمثل هذه التصويبات على الوجه الأكمل يحتاج لجهد كبير، وبمشاركة عدد كبير من المهتمين بنصوص الأستاذ.
التجربة الثالثة:
حدثت بعد اكتشاف ما لم ينشر من "الأحلام"، وهي النصوص التي نشرتها "دار الشروق" بعد وفاة الأستاذ بسنوات تحت عنوان "الأحلام الأخيرة".. وقد اتصلت بي الدار، وسألتني إذا كان ممكنا أن أقرأها وأتأكد أنها للأستاذ نجيب.. لأنها كانت بخطّ غير خطّه (هو خط الحاج صبري).. وبالفعل أتي الكاتب الصحفي الأستاذ سامح سامي إلى مدينة 6 أكتوبر، وجلسنا معا لساعات طويلة جدا.. قرأت خلالها النصوص كلها (وهي ليست كبيرة الحجم) وقمت بضبط علامات ترقيمها، وتصويب أخطاء كانت محدودة فيها بسبب الإملاء.. ولعل من قرأ هذه النصوص (أي "الأحلام الأخيرة") يلاحظ أن الأخطاء فيها أقل بكثير جدا من الجزء الأول (أحلام فترة النقاهة).. والحقيقة أن "دار الشروق"، في هذا الموقف، كانت مثالا للالتزام والجدية والحرص على الدقة.