لغتنا الجميلة
احتفلت الأمم المتحدة، أمس، بيوم اللغة العربية، والحقيقة أن أجمل ما سمعته عن لغة الضاد كان ما قاله طه حسين، الذى ما زلت أذكر صوته الجميل وهو يقول «لغتنا العربية يسر لا عسر.. ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها»، وقد كان يقول ذلك على أثر صراع بين أنصار القديم وأنصار الجديد فى اللغة العربية.. وقد دار الزمان دورته حتى لم يبق للغة العربية من أنصار أو محبين لا لقديمها ولا لجديدها كما كان الحال أيام طه حسين.. إن اللغة أى لغة ليست قيمة فى حد ذاتها.. وإتقانها والاعتزاز بها ليسا هدفًا فى حد ذاته.. لكنها انعكاس لمدى اعتزاز كل شعب بذاته وهويته الحضارية.. إنها وعاء حضارة هذا الشعب.. لذلك تعتز الشعوب بلغتها لأقصى درجة.. ويرفض الألمانى مثلًا أن يجيب الزائر الأجنبى إذا وجه له السؤال بالإنجليزية.. رغم أنه غالبًا يتقنها.. وهو نفس ما يفعله المواطن الفرنسى فى فرنسا.. إذ يرى أبناء الثقافتين الفرنسية والألمانية أن لغتيهما معبرة عن حضارة وعن ثقافة لا تقل عن الثقافة الأنجلو- سكسونية، وبالتالى لا يجوز أن يتحدث المواطن لغة أخرى داخل بلاده.. إننا إذا أخذنا الاهتمام باللغة كمقياس للاعتداد بالذات الحضارية لوجدنا أن اعتزازنا بذاتنا قد وصل للدرك الأسفل منذ عقود عديدة.. أظن أنها بدأت بعد نكسة يونيو.. وأظن أن هذا الاهتزاز الحضارى أعلن عن نفسه سافرًا منذ منتصف السبعينيات.. ولو نظرنا إلى أسماء المنشآت التجارية فى شوارعنا مثلًا حتى الستينيات فسنجد أنها كانت تتميز بميزتين.. أولاهما أنها كانت باللغة العربية وثانيتهما أنها كانت تعبر عن قيم عامة تجمع المصريين جميعًا.. فالآن قد تجد محطة بنزين تسمى «التعاون» ومطعمًا يسمى «الانسجام» ومحل كواء يسمى «السعادة» وشركة تسمى «الاتحاد» أو «المصرية».. وهكذا.. لكن هذا تغير جدًا فى أعقاب إعلان الانفتاح الاقتصادى الذى لم ندرسه جيدًا قبل أن نعلنه فكان قرارًا صحيحًا نفذ بطريقة خاطئة.. لقد تغيرت أسماء مؤسساتنا التجارية لتسير فى اتجاهين متناقضين أولهما أنها اتخذت طابعًا دينيًا يفرق ولا يجمع ويميز ولا يساوى، فرأينا كشرى الحرمين ومحل التوحيد وكبابجى مكة وفسخانى المدينة.. ومغسلة الحرم... إلخ وهى كلها أسماء مقدسة ولكنها ذات دلالة دينية، وبالتالى ظهر ما يرد عليها فى المؤسسات التى يملكها بعض المصريين الأقباط.. وكان الاتجاه الثانى الذى سارت فيه الأسماء فى مصر أنها فقدت عروبتها وصارت هجينًا أقرب إلى المسخ.. فأنت قد ترى محلًا تجاريًا يحمل اسم «عوضكو» بدلًا من اسم صاحبه «عوض» مثلًا.. أما الـ«كو» التى تمت إضافتها للاسم فهى تعريب ركيك واختصار مخل لكلمة «company» أو شركة بالإنجليزية.. وكأننا عندما نطلق الاسم الأمريكى على محل صغير سنحوله إلى كيان ضخم وناجح.. ومنذ ساعات قليلة مررت على معرض ضخم يبيع ملابس المحجبات ويسمى نفسه «……» شوبنج سنتر التى هى النطق الإنجليزى لكلمة مركز تسوق.. ولكنها مكتوبة بحروف عربية وتحولت لجزء من الاسم التجارى المسجل فى الأوراق الرسمية!! وهناك بالطبع عشرات الأمثلة التى نراها جميعًا كل يوم.. إن هذه الظاهرة من وجهة نظرى التى تتعارض من حيث المظهر مع موجة التدين الشكلى، تكشف عن حالة استلاب واهتزاز للثقة بالنفس مررنا بها بعد الهزيمة، وكأن اللغة هى التى هزمتنا وليس عوامل موضوعية كان يجدر بنا أن نتجنبها، وكان الغريب أن ثقتنا لم تعد إلينا فى هذه الناحية بعد نصر أكتوبر، بل إننا تمادينا فى تقليد الغرب، والتمسح فى أعتابه وليتنا قلدناه فى احترام العلم، والعمل وتقديس الإنتاج، ولكننا قلدناه فى المظهر دون الجوهر، وفى أسماء الشركات دون نظم العمل فيها.. وقد استمر فقدان اللغة العربية مكانتها كمعبر عن اعتزازنا بذاتنا، مع تدهور التعليم العام وهو المكون الأساسى للشخصية الوطنية، وغزو المدارس الدولية مصر مع بداية الألفية، وإقدام أبناء النخب المصرية، والشرائح العليا الاجتماعية على الالتحاق بها، ما أنتج جيلًا هجينًا، يفكر بلغة أجنبية، ويعبر بالعربية، لا يحب لغته، ولا يحترمها، وبالتالى يشعر بالاغتراب عن الناطقين بها.. وقد نتج عن تدهور المعرفة بالفصحى انحطاط العامية.. فالعامية فى أساسها هى فصحى مبسطة، وعندما تتدهور الفصحى يتلوها انحطاط العامية، ولو أنك قارنت عامية بيرم التونسى وفؤاد حداد بالعامية التى يتحدثها شباب هذه الأيام ويغنيها مطربو المهرجانات لعرفت أى درك سحيق هوينا فيه وهوت فيه لغتنا وذاتنا الحضارية.. وكما أن الدولة منخرطة فى إصلاح عشرات الملفات التى تم تخريبها على مدى نصف القرن الأخير فإننى أطالبها بإصلاح ملف تعلم اللغة العربية والاهتمام بها فى المدارس والجامعات ووسائل الإعلام، ولا يفوتنى أن أحيى بيان مجمع البحوث الإسلامية الذى طالب بالحفاظ على اللغة العربية مع تحفظ بسيط أقول فيه إن اللغة ليست مقدسة حتى لو كانت وعاء الدين، وإن العربية لغة العرب جميعًا، وإن المثقفين المسيحيين العرب كانوا أكثر من حافظ على اللغة العربية فى منتصف القرن التاسع عشر، حيث رأوا فيها درعًا يحتمون بها من الاحتلال التركى العثمانى.. ولكن هذا موضوع آخر يمكننا الحديث فيه بالتفصيل بما أن الشىء بالشىء يذكر.. ولنتذكر جميعًا أن اعتزازنا بلغتنا هو اعتزاز بذاتنا وأنه طالما بقينا نخجل من لغتنا العربية فنحن نخجل من أنفسنا ونضع رءوسنا فى الأرض أمام الآخرين.. ولا يوجد شعب ينتصر وهو يخجل من نفسه ويضع رأسه فى الأرض أمام أعدائه ومنافسيه.. وعلى الله قصد السبيل.