نهاية عصر الحسبة
قرأت خبرًا يقول إن مجموعة من السكان اعتدوا على شاب وفتاة فى عين شمس، وأنهم حرروا محضرًا ضدهما بعد الاعتداء عليهما، يتهمونهما فيه بممارسة الرذيلة وغير ذلك من التهم، لكن الأمور لم تسر على نحو ما اشتهى السكان «الحشريون»، فقد حركت النيابة العامة بلاغًا ضدهم يتهمهم بالاعتداء على صاحب الشقة السكنية والسيدة التى كانت فى ضيافته، وهى جريمة يعاقب عليها القانون بالفعل، والنصوص فى ذلك قاطعة، فى حين أن البلاغ الذى تقدموا به ضد صاحب الشقة، أقرب إلى بلاغ كيدى، فالقانون لا يجرم كل ما هو خاص بين البشر، ما دام لا يخدش الحياء العام، ولا ينطوى على ممارسة دون تمييز أو مقابل أجر.. لم يكن إجراء النيابة العامة هو الصفعة الوحيدة على وجه منتهكى خصوصية الآخرين.. فى الأسبوع الماضى كانت هناك صفعة أخرى ضد من انتهكوا خصوصية السائحة الأوكرانية، وترصدوا لها، وتعمدوا تصويرها دون إذن خاص.. واستخدموا عدسات خاصة لتصويرها من مسافة تزيد على مئتى متر.. ولم يكتفوا بهذه الجريمة.. لكنهم واصلوا انتهاك الخصوصية ونشروا صورة السيدة الأوكرانية على وسائل التواصل الاجتماعى دون إذن منها.. وهذه جريمة أخرى.. إن هذه الإجراءات التى تتخذها النيابة العامة ضد منتهكى خصوصية الآخرين لا تنطوى فقط على تطبيق صحيح القانون.. وعدم الاستسلام للابتزاز الذى يمارسه المتطرفون باسم العرف والأخلاق، ولكنها تنطوى أيضًا على رسالة حاسمة تقول إن الدولة هى الجهة الوحيدة المنوط بها تطبيق القانون.. وإنه ليس من حق جار متطفل أو صاحب عقار متربص أو مجموعة تتسكع على ناصية شارع أن تراقب سلوكيات الآخرين، أو تفرض عليهم ما تظنه قواعد الأخلاق الحميدة أو تعاقبهم بنفسها على سلوك تراه خاطئًا.. فالدولة من خلال النيابة العامة هى التى تحدد ما هو الفعل الصحيح وما هو الفعل الذى يخالف القانون، وما عدا ذلك يعد فعلًا من أفعال البلطجة والتعدى على سلطة الدولة والمجتمع.. إن هذا السلوك «الحشرى» والمتطفل الذى اعتاد البعض عليه فى العقود الأخيرة له، ولا شك، أساس فكرى.. وسبب سياسى أيضًا.. أما الأساس الفكرى فقد ظهر خلال الأربعين عامًا الأخيرة من عمر مصر.. حيث ظن البعض أنهم يعيدون اختراع الإسلام بعد سنة ١٩٧٠، وتبارى آخرون فى استيراد مظاهر التطرف الوهابى من جماعات متطرفة طفت على سطح الحياة فى المملكة العربية السعودية أولًا ثم فى مصر ثانيًا لتوقف مظاهر التقدم الاجتماعى فى كلا البلدين.. إن أصل هذا السلوك «الحشرى».. هو فهم خاطئ من متطرفين وجهلاء دينيًا بما يسمى «الحسبة» فى الإسلام، و«الحسبة» هى أن يتطوع أحدهم للتدخل فى شئون الآخرين باسم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، دون تكليف رسمى!! ودون أجر يناله عن ذلك، لذلك سميت «حسبة» أو «احتسابًا» لا ينتظر عليه صاحبه أجرًا.. ويؤكد الثقاة من العلماء أن «الحسبة» لم ترد فيها آية من آيات القرآن ولا حديث شريف، لكن أقلية من المتطرفين يفسرون آية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على أنها تصريح بالتدخل فى شئون الآخرين والاعتداء على حريتهم، بل الاعتداء عليهم شخصيًا.. وقد ساعد على انتشار هذا المفهوم الخاطئ فى مصر، ظهور هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى المملكة العربية السعودية، وهى تضم مجموعة من «المحتسبين» أطلق عليهم «المطوعون» نسبة إلى تطوعهم لأداء هذا العمل الذى كانوا يظنون أنه من صميم الدين، قبل أن يدركوا خطأهم، ويعلنوا توبتهم، ويعلنوا حل الهيئة نفسها عقب التغيرات الأخيرة فى المملكة، كان المطوعون عادة من كبار السن، يحمل كل منهم عصا طويلة، وغالبًا ما يكون لكل مسجد مطوع أو أكثر، يراقب المنطقة المحيطة به، ويوجه ملاحظاته للناس حول ملابسهم، وسلوكهم، وقد يوجه ضربة لشخص يدخن مثلًا، أو يقتحم محلًا تجاريًا استمر فى العمل بعد الصلاة، أو يطلب تحقيق شخصية من رجل يسير مع زوجته.. وقد مارست الجماعة الإسلامية هذا السلوك البغيض فى صعيد مصر فى بداية الثمانينيات، قبل أن تلزمها أجهزة الأمن جادة الصواب بعد صراع طويل، التزمت بعده بنبذ العنف بمختلف أشكاله بما فيه هذا السلوك البغيض، ولا يعرف الذين لم يعاصروا فترة التسعينيات أن المتطرفين بمختلف فصائلهم أشهروا سلاح الحسبة فى وجه الفنانين والمفكرين والباحثين المصريين طوال هذا العقد الكئيب، ولم يكن ذلك سوى علامة على رخاوة الدولة المصرية وقتها، وقلة حيلتها، وتواطؤ بعض مسئوليها وقضاتها مع المتطرفين.. حيث لجأ المتطرفون إلى سلاح القانون ليشهروه فى وجه الوجه المدنى لمصر استنادًا إلى مبدأ الحسبة الذى كان يقول ببساطة إن أى شخص يدعى الغيرة على الإسلام يمكنه مقاضاة شخص آخر بل تكفيره بحجة أنه خالف تعاليم الإسلام.. هكذا دون أن يقع عليه أدنى ضرر شخصى، أو أن تكون له علاقة من أى نوع بهذا الكاتب أو المفكر أو الفنان.. وقد كانت المرة الأولى التى يصدم بها المجتمع بهذا النوع من القضايا فى عام ١٩٩٤حين رفع مجموعة من المحامين دعوى حسبة ضد د. نصر حامد أبوزيد أستاذ الأدب العربى، يتهمونه فيها بالكفر، بسبب أبحاث علمية ألفها، وتقدم بها لجامعة القاهرة، ولم تسر القضية فى مسار جيد، وحكم فيها قاض يلتزم بإطلاق اللحية وارتداء الزى الأفغانى.. واكتشف مجموعة ممن يرتزقون باسم الدين أن قضايا الحسبة هى الباب السحرى للحصول على المال والشهرة، وكوّن الشيخ يوسف البدوى تنظيمًا من المحامين لرفع قضايا حسبة ضد كل من يواجه الأفكار الظلامية، وكانت القضايا ترفع فى مدن بعيدة بنية «بهدلة» المبدعين فى المحاكم، وضمت قائمة الضحايا أسماء مثل نجيب محفوظ، وأحمد عبدالمعطى حجازى، والفنانة يسرا، والأستاذ وحيد حامد، والعشرات غيرهم.. وساهمت القنوات الفضائية فى شهرة هؤلاء المتطرفين باستضافتهم وإتاحة الفرصة لهم لمناظرة من يدافعون عن حرية الفكر والإبداع.. وأذكر أن الشيخ يوسف البدرى كان يرفع الدعوى ثم يسارع لإبلاغنا فى روزاليوسف بها، حتى نهاجمه، فيضمن الشيوع والانتشار.. والاستضافة فى القنوات الفضائية.. التى كانت تقدم لضيوفها مكافأة ضخمة بمعايير ذلك الزمان.. ولم يكن ذلك سوى خطأ كبير من الإعلام ومن مؤسسات الدولة، التى كانت تسمح بهذه المساخر.. للإيحاء بوجود حرية سياسية، أو لامتصاص حماس المتطرفين، فى حين أن مثل هذه الدعاوى، لم تكن سوى تأكيد على ثقافة الإرهاب، والتدخل فى حياة الآخرين، ونشر ثقافة المطوعين، وانتهاك قيم القانون والدستور.. ولم يكن ما يحدث سوى جزء من رحلة تراجع طويلة للدولة المصرية بدأتها عقب حرب أكتوبر وانتهت بصعود الإخوان المسلمين إلى كرسى رئاسة مصر وإسقاطهم الدولة المصرية، التى استعادها المصريون مرة أخرى فى ٣٠ يونيو وانطلقوا بها على طريق تصحيح طويل.. استوعب أخطاء الماضى ومخازيه.. ومنها رخاوة الدولة وسكوتها على انتهاك البعض سلطتها وحرية الآخرين وخصوصيتهم.. وهو فصل من تاريخ طويل.. أرويه ليعرف البعض أين كنا وكيف أصبحنا.. سواء فى هذا المجال أو فى غيره الكثير.