تاريخ العصامية والجربعة.. لمحات ذكية تفسدها تحيزات سياسية
كتاب «تاريخ العصامية والجربعة» للباحث محمد نعيم، والصادر مؤخرًا عن دار نشر المحروسة، يحتوى على ميزة كبيرة وعلى عيب قاتل.. الميزة أنه تحليل اجتماعى مكتوب بلغة سلسة وهذا نادر.. والعيب أنه يرى الحقائق بنظارة الأيديولوجيا وهذا قاتل.
ينتمى الكتاب لعلم «الاجتماع السياسى»، ويقدم له كاتبه بمقدمة من العامية المصرية لم أرَ لها داعيًا أو مبررًا سوى أنه يريد مجاراة أذواق الشباب أو يعتذر لهم عن الكتابة الرصينة التى قدمها فى معظم فصول الكتاب.. الكتابات الجادة فى علم الاجتماع نادرة، ومعظمها من خارج أسرار الأكاديميات.. على الأقل خلال الثلاثين عامًا الأخيرة باستثناء كتابات جادة للدكتور سعيد المصرى وأصوات أخرى قليلة.. هذا الكتاب ينتمى لمدرسة التحليل الاجتماعى بلغة سهلة.. ويحتوى على لمحات ذكية فى قراءة تاريخ المجتمع المصرى وتكون النخب المصرية.. وهو يرى الحقائق بنظارة المعارض السياسى وهذا يجعل بعض أحكامه غير موضوعية، وإن كان بعضها الآخر ليس كذلك.. وهو يقصد بـ«العصامية» التى ذكرها فى العنوان الجهود الصادقة التى أدت إلى صعود الطبقة الوسطى المصرية، ويقصد بـ«الجربعة» التقاليد التى ارتبطت بسنوات انحدار المجتمع المصرى وسيادة قيم المادة والنفاق الاجتماعى والسياسى.. إلخ.. وهو يتحدث فى كتابه عن تاريخ تكون الطبقة الأرستقراطية المصرية قائلًا إن كثيرًا من رموزها كانوا خدمًا وعاملين لدى الوالى محمد على، وإنه أنعم عليهم بالأراضى والأبعديات التى حولتهم إلى إقطاعيين وأصحاب ثروات.. وما يقوله المؤلف صحيح ولكنه مبتسر وينطوى على قراءة أيديولوجية ترغب فى الإدانة دون النظر للظروف المحيطة.. فمحمد على وزع الأراضى على معاونيه ومن أدوا خدمات كبيرة لدولته، لكن الأراضى فى معظمها كانت غير مستصلحة وغير مزروعة وقد بذل من حصلوا عليها جهودًا كبيرة فى استصلاحها والاستثمار فيها، وساعدتهم فى هذا خبراتهم السابقة كموظفين أو مسئولين أو رجال إدارة.. والذين نجحوا بعد ذلك فى الاستثمار ومضاعفة الثروة هم الذين عرفوا كرءوس للعائلات الإقطاعية والكبيرة، وبالتالى هم بالمعيار الرأسمالى أناس شرفاء عملوا بجد وأضافوا للناتج المصرى القومى وأدخلوا محاصيل لم تكن موجودة فى مصر واستحدثوا طرقًا جديدة للزراعة والرى.. وهكذا.. لكن المؤلف لا يرى هذا بمعيار الأيديولوجيا.. ومع ذلك فالكتاب ينطوى على ميزة كبرى وهى امتلاكه نظرة عامة لرحلة المجتمع المصرى مع الحداثة.. فهو يحلل رحلة المصريين منذ عصر محمد على وحتى الآن، ويرى أنها كانت رحلة للهروب من الفقر، وهى نظرة صحيحة فى معظمها، فالحال كان سيئًا قبل تأسيس محمد على دولته الحديثة، والكاتب يرصد تأثيرات سنوات الاحتلال التركى على معايير المصريين فى الجمال والغنى والثروة، ودور التعليم كرافعة اجتماعية، ويقدم بعض لمحات ذكية عن الوضع الاجتماعى للضباط الأحرار قبل الثورة، وأنهم كانوا ينتمون اجتماعيًا للنخبة الحاكمة، ومن ثم فإن تغييرًا كبيرًا لم يحدث من وجهة نظره.. وهو كلام قابل للنقاش.. فحتى لو كان ضابط وطنى مثل جمال عبدالناصر يحظى بوضع وظيفى جيد إلا أن السياسات الاجتماعية التى تبناها كانت ضد الطبقة الحاكمة قبل الثورة، بمعنى أنه اختار أن يثور على هذه الطبقة وينهى امتيازاتها بدلًا من أن يوطد أواصره بها، أو يدعم وجودها هى نفسها.
يقدم الكتاب شذرات ذكية وعميقة عن سر تمسك المصريين بقطعة أثاث مثل «النيش» واقتباسهم لها من بيوت الأغنياء رغم أنهم فى معظمهم لا يملكون ما يملأون به فراغ النيش من التحف والأنتيكات.. ويقدم لمحات أخرى عن انبهار المصريين بنمط الحياة الأمريكى وإقدام أطفال الطبقات الموسرة على استهلاك منتجات مطاعم معينة «الهامبرجر» فى حين أنه طعام الفقراء والأكثر فقرًا فى أمريكا! وهو يقدم تحليلًا عن المجتمع المصرى بعد «ثورة يناير» لا يخلو من نظرة رومانسية وأيديولوجية أيضًا.. فى كل الأحوال الكتاب يقدم محاولة جادة لقراءة المجتمع المصرى وعوامل صعود الطبقات الوسطى المصرية والتى يصفها بـ«العصامية» وعوامل السقوط التى يصفها بـ«الجربعة».. والأهم أنه يقدم فكرة مفتاحية لفهم رحلة المصريين العاديين خلال قرنين، وهى أنها رحلة الهروب من الفقر، مع رصد تجليات هذا فى السلوكيات اليومية للمصريين، وهو بشكل عام كتاب يضيف جديدًا فى وقت لم تعد فيه أغلب الكتب تضيف جديدًا يذكر ولا قديمًا يعاد.