عامل فيها أرسطو
"الإنسانية- دون الدين- لا ضابط لها، لأن معايير البشر ليست واحدة، ولأنه لا يمكن فرض معيار أحد على الآخر، فما تراه بعقلك صوابًا يخالفك فيه غيرك.
القيم الإنسانية التي يمكن الاحتكام إليها كمرجع هي تلك التي تنبثق عن الوحي الإلهي المعصوم، فلا غنى لنا عن الدين".
فيه إنسان كاتب هذا الكلام، وعشرات الألوف من البشر، وربما مئات الألوف أو الملايين ماشية عمالة تؤيد.
مشكلتي مع الكلام دا إيه؟ مش الكونكولوجن النهائي اللي وصل له، إنما إنه بـ يلبس هذه النتيجة توب المنطق، وبـ يعمل لها مقدمات يستخلصها منها، بينما هنا مفيش بـ ربع جنيه استدلال.
حضرتك بدأت بـ فرضية: هي غياب "الضابط" في حالة غياب "الدين"، مش كدا؟
ثم قدمت دليل على صحة الفرضية دي، وهي إنه:
1. معايير البشر ليست واحدة
2. "لا يمكن" فرض معيار أحد على الآخر
ثم ختمت هذه الجزئية بـ عبارة بلاغية لم تضف جديدًا، ما تراه بـ عقلك بلا بلا بلا.
تمام!
تعالى نشوف الأدلة اللي استخدمتها لـ صحة فرضيتك، وهي إنه معايير البشر ليست واحدة، ونسأل:هل أساسًا فيه علاقة بين معايير "البشر" والضابط؟ بـ أتكلم في العموم هنا، هل فيه علاقة بينهم؟
استقراء الواقع يخبرنا إنه لأ، والمنطق نفسه يخبرنا إنه لأ
ليه؟ لـ إنه الضابط مش معني بـ معايير الفرد، خالص خالص خالص يعني، إنما معني بـ "السلوك"، والسلوك ممكن ينتج عن معيار، وممكن لأ، وممكن ينتج عن تضارب معايير عند الإنسان.
مثلًا، هل كل واحد قتل واحد شايف إنه القتل كويس؟ أو مباح أو مشروع أو صح أو أي حاجة معيارية إيجابية؟ الواقع إنه مش بـ الضرورة، بل إنه أغلب الناس اللي ارتكبوا جريمة قتل كانوا تحت تأثير ضغوط ما، أو غائبين عن "وعيهم"، أو شايفين القتل عمومًا جريمة، إنما في هذه الحالة مباح وربما واجب، وربما لا يقصدون من أساسه إنهم يقتلوا.
الضابط مالوش دعوة بـ معيارك لـ القتل، ولا رؤيتك تجاهه، ولا فلسفتك نحوه، ولا أي مرجعية من هاتيك المراجيع. إنما دوره إنه "يحدد"، أي يضع حدودًا، ويقول إنه القتل بـ شكل عام جريمة، يعاقب مرتكبها، لكن فيه حالات لا يعاقب، زي الدفاع عن النفس، أو الحرب، أو السلطة التنفيذية عند الحكم على أحدهم بـ الإعدام، أو أو أو.
طب مين اللي قال القتل جريمة؟ يعني تجريم القتل دا مش ناتج عن "معيار" ما؟
صح، بس مش معيار المواطن الشخص الفرد، إنما معيار "المشرع"، والمشرع داهو من ينوب عن الجماعة كلها، مش عن فرد فرد فيها، بـ التالي معايير كل فرد مش مهمة، واختلاف معايير "س" أو "ص" كـ شخص عن معيار المشرع أمر لا قيمة له على الإطلاق، فضلًا عن إنه ارتكابك فعل ما، معيارك تجاهه ما يلزمش المجتمع في حاجة.
نيجي بقى لـ جملة: "لا يمكن" فرض معيار أحد على الآخر، وأنا مش عارف بـ صراحة، هو جاب الكلام دا منين؟ إزاي "لا يمكن"؟
أنا أفهم إنك تقول "لا يجب"، "لا ينبغي"، "ليس جيدًا"، إنما "لا يمكن"! أومال الدنيا دي كلها ماشية إزاي؟ إذا كان الضابط أساسًا (أيًا كانت مرجعيته) هو فرض معيار واحد على الجميع، الشركة بـ تقول لك:بدء العمل الساعة 8، والتأخير يستلزم العقاب المالي، هل دا معيارك إنت ولا معيار الشركة؟
دار النشر بـ تقول لي: آخر ميعاد لـ تسليم الكتاب 1 ديسمبر، ولو ما سلمتوش تسقط حقوقك عندها، دا معياري ولا معيار دار النشر؟
انظر حولك صديقي، لا مناص من "فرض" المعايير فرضًا.
الخلاصة هنا: مفيش علاقة بين الضابط ومعيار الشخص، واختلاف المعايير اللي حضرتك بـ تتكلم عنه، هو أمر بديهي فعلًا، يوجب وضع ضوابط فعلًا، لكن مفيش في استدلالك أي حاجة تربط هذا الضابط بـ الدين وجوبًا، وتجعل غياب الدين معناه بـ الضرورة غياب الضابط، لـ إنه عادي جدًا "ممكن" البشر يضعوا ضوابط، الدين مالوش علاقة بيها، أو حتى ضده.
الكلام هنا مش عن إنه دا كويس أو وحش، إنما عن الإمكانية في حد ذاتها، يعني لو إنت قلت مثلًا: الضوابط المعتمدة على أمر غير الدين فاسدة، أو وحشة أو كخة أو هـ تودينا النار، دي فرضية مختلفة خالص عن اللي حضرتك طرحتها، تحتاج استدلال مختلف (إن وجد).
نيجي بقى لـ الجزء التاني من البوست:
"القيم الإنسانية التي يمكن الاحتكام إليها كمرجع هي تلك التي تنبثق عن الوحي الإلهي المعصوم، فلا غنى لنا عن الدين".
تاني!إنت تاني! بـ تقول "يمكن" برضه! يا حبيبي قول "أفضل" أو "أحبذ"، أو "أقبل" أو "أدعو"، لكن ما ينفعش خالص "يمكن" دي.
خلي بالك مبدئيًا، هنا فيه مغالطة كبيرة، هو الأول كان بـ يتكلم عن "الضابط"، دلوقتي بـ يتكلم عن "المرجع"، ودول حاجتين غير بعض، صحيح قد ينتج الأول عن الثاني، إنما مش بـ الضرورة.
يعني مثلًا: علشان تستخرج بطاقة شخصية، لازم تقدم إيصال مرافق على العنوان اللي هـ تسجله. دا "ضابط"، إيه مرجعيته؟ مفيش "مرجعية"، الدولة عايزة تسجل بياناتك، فـ عايزاك تقدم ما يثبتها، فـ المشرع شاف إنه إيصال المرافق يثبت.
ممكن بكرة يشوف إنه ما يثبتش، أو إنه ممكن إثباتها بـ طريقة أسهل، أو إنه مش محتاج إثباتها أساسًا، لـ إنه عنده مسح شامل مين ساكن فين مع مين؟ فـ المرجعية اللي بـ يستند إليها الضابط أمر مختلف عن الضابط نفسه.
لكنه في البوست لا يكتفي بـ وجوب مرجعية لـ كل ضابط، إنما كمان يفترض إنه المرجعية الوحيدة "الممكنة"هي "ما ينبثق" عن الوحي الإلهي "المعصوم". وهنا وقعنا في حفرة غوييييييطة جدًا، لـ إنه حضرتك بـ تنطلق من إنه اختلاف المعايير، يوجب وضع ضوابط. أوكي.
وبـ تفترض إنه الضوابط لازم لها مرجعية، مش أوكي بس ماشي، وبـ تفترض إنه المرجعية دي لزومًا هي ما ينبثق عن الوحي الإلهي. فـ هنا ستوب.
ما دا يستلزم يا كابو، حسب ما انطلقت إنت منه، إنه البشر يتفقوا أولًا على إنه دا "وحي إلهي"، ثم يتفقوا ثانيًاعلى إنه الضابط دا بـ الذات "ينبثق فعلًا عن الوحي الإلهي"، يعني حضرتك شايف إنه المشكلة الناتجة عن اختلاف معايير البشر، تتحل بـ إننا نحيلها إلى أمر واحد فقط، هذا الأمر البشر مختلفين عليه.
دا حضرتك استدلال دائري، زي كدا ما تقول لي:زيارة المريض واجبة، لـ إن المريض لازم الناس تزوره.
فـ ما فهمته هنا، هو إنك بـ تقول لي: البشر مختلفين، وعشان البشر مختلفين، لازم نحتكم لـ الإله، اللي البشر مختلفين عليه.
فـ يا جماعة الخير، يا كاتب البوست ويا من تؤيدونه، ما تجربوا تمشوا في الدوغري، وتيجوا في السالك، وتقولوا:
نحن نؤمن بـ وجود إله، ونؤمن إن طبيعته هي وفق ما جاء به الإسلام، ونؤمن أنه وضع تشريعات محددة ونؤمن أن فهم الشيخ فلان أو الشيخ علان هو الفهم الصحيح للإله وطبيعته وتشريعاته، ونؤمن أن ما نؤمن به مطلق، فـ إحنا هـ نفرضه على العالم ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، وبـ كل ما نمتلك من قوة، وعلى المختلف إما الخضوع وإما الإقصاء.
كدا أحبك، إنما تقول لي منطق وتعمل لي فيها أرسطو، عيب!