بحث علمى وقطاع خاص.. فى مصر!
تتلقى الجامعات ومراكز الأبحاث المصرية كمًا هائلًا من النقد اللاذع، بسبب تراجع مكانتها على مؤشرات التصنيف الدولى، ومع كل موسم لصدور هذه المؤشرات تبدأ دورة جديدة من الضربات اللاسعة لمجتمع البحث العلمى المصرى، الذى يعانى وبشدة من اهتزاز صورته فى الذهنية المصرية الجمعية، لأنه لطالما أخفق فى تقديم ابتكارات تصلح للتصنيع الضخم أو للاستهلاك الجماعى، بل وقف عاجزًا عن تقديم منتجات وحلول ملموسة لمشكلات المجتمع التى تُغير حياة المواطنين، أو حتى تمسها، بما يشعرهم بأن هناك حياة فى المعامل أو جهودًا تُبذل فى المكتبات.
لكن العام الجارى حمل معه بضعة أخبار ربما تكون مقدمات تغير هذه الصورة- على الرغم من الإهمال الإعلامى لها- فمع بداية العام أعلن مركز البحوث الزراعية عن تطوير سلالة مصرية جديدة من الأرز، أُطلق عليها اسم «الأرز الجاف»، الذى تستهلك زراعته ٣٥٠٠ م٣ من المياه للفدان، مقارنة بنحو ٧ آلاف م٣ يستهلكها المحصول التقليدى، فيما ينتج ذات الإنتاجية بمستوى ٣٫٥ طن للفدان تقريبًا، وستمثل هذه السلالة الجديدة- فى حال نجحت وزارة الزراعة فى تعميمها على سائر أنحاء الجمهورية، واستبدالها بالسلالات القائمة- نقلة اقتصادية أقل ما توصف به أنها ثورية.
فإذا أجرينا حسبة بسيطة، بمعلومية أن مصر تزرع سنويًا نحو مليون و١٠٠ ألف فدان من الأرز، تستهلك نحو ٧٫٧ مليار م٣ من المياه، بما يمثل ١٣٪ تقريبًا من إجمالى موارد المياه المصرية السنوية، والبالغة ٦٠ مليار م٣، فإن هذه الكميات ستنخفض إلى نحو ٤ مليارات م٣ بعد التعميم الكامل، بما يوفر نحو ٦٪ على الأقل من الحصة السنوية المصرية، وهى أربعة أضعاف الكمية التى تنوى الحكومة إنتاجها سنويًا، عبر برنامج طموح يستهدف بناء ١٧ من محطات تحلية مياه البحر، فى برنامج يتكلف أكثر من ٢٫٥ مليار دولار، لإنتاج ٩٠٠ مليون متر م فقط من المياه.
تأتى هذه السلالة كأولى ثمرات استراتيجية حكومية لخفض استهلاك المياه فى مصر، اعتمادًا على سلالات نباتية مصرية «موفرة» للمياه، تعمل على تخليقها مراكز البحوث الزراعية المصرية، التى تعمل كذلك على تطوير سلالات من القمح عالى الإنتاجية منخفض استهلاك المياه، وتجرى تجربتها فى أكثر من ٨ آلاف حقل تجريبى، بهدف توفيق السلالات الجديدة مع مناطق الإنتاج المختلفة فى الجمهورية.
إنجازات البحث العلمى «الملموسة» خلال العام الجارى لم تقتصر على قطاعى الزراعة والغذاء، إذ أعلنت وزارة التعليم العالى يوم ١٤ أكتوبر الماضى عن بدء التجارب السريرية للقاح «كوفى فاكس» المصرى المضاد لفيروس كورونا المستجد «كوفيد- ١٩»، المطورون كانوا فريقًا من الباحثين يعملون تحت قيادة د. محمد أحمد على، أستاذ الفيروسات بالمركز القومى للبحوث، بالإضافة لكل من د. رحاب حجازى، د. أسامة عزمى، وبرعاية شركة فاكسين فالى المصرية الخاصة.
وتعنى مرحلة التجارب السريرية أن اللقاح أصبح موثوقًا فيه بشكل مبدئى للاستخدام البشرى، وأنه سيجرى تقييم آثاره على البشر عبر مجموعات من المئات ثم الآلاف من المرضى المتطوعين، وذلك بعد مروره بمرحلة ما قبل التجارب السريرية على الحيوانات منذ شهر يونيو ٢٠٢٠.
ورغم أن الخبر لا يبدو مثيرًا خاصة بعد مرور نحو العام على تطوير اللقاحات فى الشرق والغرب، فإن نجاح منظومة البحث العلمى فى تطوير اللقاح يشير إلى أمرين: أولهما: أن بعضًا من مكونات هذه المنظومة يعمل بشكل جيد يمكن البناء عليه، وإن كانت تنقصه الإمكانيات المادية، التى بضخها يمكن أن تتغير الصورة. أما الثانى: فإنه بإمكانية التعاون بين القطاعين العام والخاص المصريين، وتطوير جهود مصرية خالصة لإنتاج بعض من أهم احتياجات المواطنين وحل مشكلاتهم.
تنبعث رائحة الأمل إذن من قطاع البحث العلمى فى مصر، بعد الموات الذى طاله، وانقطاع أخباره سنوات طوال، غيبت مؤسسات الدولة المصرية بكاملها، بل قطاعها الخاص الوطنى الجاد أيضًا، ومنعت هذين القطاعين من التعاون الخلاق الذى تحاول الدولة تطويره الآن ليصبح نمطًا يطال كامل القطاعات المصرية الاقتصادية، بداية من قطاع البنية التحتية، وذلك بعدما وافق مجلس النواب فى ١٥ أكتوبر الماضى على مشروع قانون «مشاركة القطاع الخاص فى مشروعات البنية التحتية» الذى يهدف لتبسيط عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص، فى مجالات تشمل النقل والطاقة والاتصالات والرعاية الصحية، لكن لهذا حديث يطول فى مقام آخر.