رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف تلاعبت «السوشيال ميديا» بمنظمات ووسائل الإعلام الدولى؟

 

قالت لى زميلة صحفية، كانت فى زيارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، إنه فى بداية الرحلة جمعتها جلسة عمل بفريق منظمة «هيومن رايتس ووتش»، التى لم يكن لها تمثيل فى القاهرة وقتها، ورغم ذلك شهدت الجلسة تسليمها نسخة من التقرير السنوى، الذى أعدته المنظمة عن حقوق الإنسان فى مصر ٢٠١٩، ونظرًا لحجم التقرير الكبير، كان من الطبيعى أن تسأل «كيف وصلتكم المعلومات الواردة فى التقرير؟ وكيف استوثقتم من صدقها رغم عدم وجودكم فى مصر؟»، فكانت المفاجأة فى إجابة مسئولة المنظمة، التى قالت بمنتهى الأريحية إنهم أحيانًا ما يعتمدون فى عملهم على ما يردهم من اتصالات هاتفية، وأحيانًا عبر وسائل التواصل الاجتماعى، من خلال ما يتم رصده من تغريدات وقصص على «تويتر وفيسبوك» وغيرهما من مواقع، إلى جانب ما تنشره الصحف ووكالات الأنباء من أخبار وتقارير، وهنا انفعلت صديقتى وهى تسأل: «وهل يكفى اتصال هاتفى من مجهول كمصدر لعمل منظمة تدعى الدقة؟ كيف تتأكدون من صفة المتصل، أو صدق ما يرويه؟ هل تكفى كلمات مرسلة على صفحات يعلم الجميع أن منها المجهول، والمدفوع، ومنها من يعمل على ترويج الشائعات والأكاذيب، كمادة لتقرير يتم توزيعه على وسائل الإعلام دون توثيق، أو التأكد مما يتضمنه من اتهامات وأكاذيب؟».. توترت مسئولة المنظمة وانفعلت، وقالت إنها ليست هى من أعدت التقرير، ولا أى مسئولية تقع عليها، مضيفة أن هناك فريقًا بحثيًا مسئولًا عن الملف المصرى، وهو من قام بإعداد التقرير، لكنهم غير موجودين لكى يردوا على أسئلتها.

هكذا كان لا بد أن تنتهى المقابلة، فلا مجال لحديث أو استفسار، ولا إمكانية لحوار مع بشر يعترفون، بوقاحة لا مثيل لها، بأن تلك هى طريقة عملهم، ولا مجال أيضًا لتصديق ما يبثون من أكاذيب، ولا مجال لبحث عن فريق إعداد التقرير الذى لم يغادر الولايات المتحدة، ولم يكلف واحد من أعضائه نفسه مشقة توثيق ما يصله من ادعاءات وأوهام عابرة للمحيطات.

الحقيقة أنه ليس من المنطق فى شىء، أن يظن أحد، أو يصدق، فى حسن نوايا الغرب الأوروبى والأمريكى تجاه العرب، أو حتى تجاه أنفسهم، فالمعلوم من السياسة بالضرورة أنها لعبة المصالح، هى التى تحسم المفاوضات والعلاقات بين الدول، وهى التى تشعل الحروب، وتنهيها.. ربما تتفاوت وتختلف، تزيد أو تقل، لكنها تبقى القاعدة الأولى التى ينطلق منها الساسة، ورجال المال والأعمال، ويختار بها المواطنون نوابهم، وممثليهم، وتنشأ على قاعدتها الأحزاب والتيارات. 

والمؤكد، بالنسبة لى على الأقل، أن الصحافة والإعلام فى القلب من معادلة السياسة، إن لم يكونا صاحبى الدور الأهم، والأكثر وضوحًا، والأبرز فى تحريك المياه، وتحويل الميول والتصورات وتحديد الاتجاهات.. فالمعلومة وحدها قادرة على قلب مائدة التفاوض وإشعال الحرب، والمعلومة وحدها قادرة على حسم الصراعات، وإنهاء الخصومة، وإحلال السلام، إلا أنه مع التطور الكبير الحادث فى وسائل التواصل، وأدوات الاتصال، وصناعة المحتوى، صار من السهل على أى هاوٍ صناعة الشائعات، وحبكها وتسبيكها حتى تبدو وكأنها الحقيقة الكاملة، وصولًا إلى صناعة الصور ومقاطع الفيديو وتركيبها وتحريكها وبثها على أوسع نطاق.

لم تعد الكلمات فقط هى مصدر الشائعات والأكاذيب، ولا المعلومات المغلوطة، ولم تعد الصورة المركبة وحدها تكفى للوقوع فى فخ الشائعات، فقد دخلت سوق المعلومات والأخبار، منذ سنوات ليست بالقريبة، فى فوضى عارمة تطال كل شىء، حتى إنه لم يعد من السهل على متلقى الأخبار أو مستهلكها تصديق كل ما يراه أو يقرأه دون مرور على دائرة الشك، والتدقيق والمراجعة، إلا أن المتابع لما يبثه الكثير من مواقع الصحف ووكالات الأنباء، والمنظمات الحقوقية التى يراها البعض «مرموقة»، لا بد أن تصدمه فاجعة اعتماد تلك المنصات على ما تبثه مواقع التواصل الاجتماعى من مواد، بعضها هزلى وبعضها مركب، أو مقتطع من سياقه، وغالبيته مدسوسة.

والحقيقة أننى منذ بداية عملى الصحفى نهايات القرن الماضى، ولسوء الحظ، أو لحسنه، تساقط أمام عينى، على مدى السنوات، الكثير من المواقع، والصحف والمجلات، والمنظمات الحقوقية، المحلية، والعربية، والدولية، والتى تتمتع بحضور غير طبيعى لدى كتاب ومفكرين ومحللين سياسيين مصريين وعرب، حتى لم يعد منها ما يمكن اعتباره محل ثقة وتقدير إلا أقل القليل، ولا أظن أن هذه الرحلة سوف تنتهى قريبًا، أو فى المدى المنظور، مع تصاعد ظاهرة تلاعب وسائط «السوشيال ميديا» بمنظمات المجتمع المدنى، والصحف والمجلات العربية والدولية على حد سواء.