رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المثقف والجنس.. كيف يحل صلاح فضل الإشكالية المسكوت عنها؟

 

«ملعونة تلك (السيدا) التى جعلتكم بهذا الجبن أيها الرجال!»، صدرت هذه الصرخة الغاضبة عن حسناء إسبانية حين عانقها رجل مصرى فى منتصف العمر بقوة وحرارة فى بادئ الأمر فتفتحت له زهرة أنوثتها، ثم سرعان ما انسحب من حضرتها البهية بسبب خوفه- بل قل رعبه- من فيروس الإيدز، أو السيدا، الذى انتشر بقوة كجائحة مخيفة عبر العالم فى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى، وكان مرتبطًا فى المخيلة العامة بالممارسات الجنسية المتحررة.

لم يكن هذا الرجل الذى لبت دعوته الإسبانية الجميلة سوى الدكتور صلاح فضل، المفكر والناقد الكبير، الذى عاش فى إسبانيا صولات وجولات، حيث حصل على الدكتوراه، كما تم تعيينه مستشارًا ثقافيًا للسفارة المصرية بمدريد، والذى أراد أن يدوّن بعضًا من مذكراته بعد مرور حقبة زمنية كبرى، فلم ينس هذا الموقف وهو يخطّ كتابه الجديد «صدى الذاكرة» الصادر مؤخرًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. 

يواجه هنا د. صلاح، وبشجاعة نادرة، واحدة من الإشكاليات الكبرى فى حياتنا الثقافية، وأعنى بها تلك المتعلقة بالجنس، فنحن نبدع فى «التنظير» حوله ونتفنن فى الكتابة الإبداعية «المتخلية ولو ظاهريًا» عنه، أما حين يتعلق الأمر بمذكراتنا وذكرياتنا الشخصية وسيرتنا الذاتية، ندور ونناور، نقفز على مساحات الحرج، نتسلل من بين سطور الماضى فنهرب أو نتجمل!

يأتى الكتاب إذن كمحاولة للنبش فى أصداء ذكريات المفكر الكبير ليستخرج منها بعض الشذرات المتصلة بالحب المألوف بين الرجل والمرأة على وجه التحديد «بما فيه من طاقة عاطفية جارفة ونزعة حسية مقدورة وغريزة جنسية ماكرة لحفظ البقاء» وفوق ذلك بما فيه من تجليات صنعتها أساطير الشعراء وأخيلة الكتاب وسكبوها فى قلوب المفتونين بالأدب، بحيث تجرحهم نظرة عابرة وتسحرهم طلعة باهرة «وتغمرهم الأنثى بفيض نورها فى حضورها الوضىء الفتّان».

يروى المؤلف كيف تفتح وعيه على مواسم جنى القطن وكيف كان يداعب الفتيات أثناء جمع المحصول وهو مراهق يعيش فى الريف، فينتظر أن تأتى الواحدة منهن لتفرغ ما فى جيوبها فيمد يده لتعبث هنا أو هناك فتشهق متظاهرة بالرفض وهى فى الحقيقة لا تبالى إلا بشىء واحد: هل هناك من يرى ما يحدث؟!

ورغم ذلك، عاش د. فضل لونًا من الحرمان العاطفى والجسدى بحكم نشأته الأزهرية المبكرة على نحو منعه من التعبير عن «ولعه» بالأنثى وإطفاء ظمئه لها فى «الصوت واللفتة والنظرة والحضور المشبع للحس والوجدان معًا»، وظل هذا الهاجس دون إشباع فتكونت لديه وساوس الخوف من «القصور» حتى جاء إلى القاهرة فاستشار طبيبًا متخصصًا، فأخضعه لبعض الجلسات الكهربائية ولم يستطع أن يبعث الثقة لديه حتى مر بتجربة الشباب «المعتادة» مع «أول امرأة» وهى محفوفة دائمًا بالشعور بالإثم، فاضطربت لديه أشواق الحياة وصراعات الروح والجسد واهتزت مفاهيم الأخلاق حتى دفعته أن يلوذ بسير الأسلاف من الأدباء يلتمس لديهم هدهدة المشاعر و«المصالحة العسيرة» مع الذات.

ويعترف د. صلاح بأنه بعد سنوات «لا يعرف عددها» فقد فى زواجه «نزق الحب ولهفته وأشواقه المشبوبة»، لتصبح الزوجة نوعًا من الإدمان الاجتماعى، فلا تتصور حياتك بدونها، وفى المقابل، أتاح له عمله مشرفًا على الرسائل العلمية الجامعية اصطفاء بعض التلميذات «الحسان اليانعات» وتربيتهن عاطفيًا وثقافيًا وترك مشاعرهن تنمو بلطف وتؤدة فى إطار من العلاقة الأبوية، لكن إذا ما أصرت إحداهن على الاستغراق فى حالات الحب والهيام استجاب مشترطًا «أن يظل ذلك فى حدود لا تمنعها من اختيار رفيق دربها وبناء حياة أسرية صحيحة»!

ارتكب د. صلاح العديد من «السرقات العاطفية»، على حد تعبيره، والتى تتضمن «القُبلة الطازجة والحديث الشهى والحضن الحنون»، لكنه كان يعتبر ذلك من قبيل «اللمم» الذى لا يرقى إلى مستوى الخيانة. وربما كان هذا السبب فى أن زوجته أطرقت بحزن وسال خيطان من الدموع على خديها حين سألته وهى على فراش المرض عن مفهومه للخيانة الزوجية، فرد كما هو متوقع بأنها الممارسة الجنسية خارج إطار الزواج، أما هى فتعتبرها الخروج عن حالة التبتل فى مدينة العشق!