عودة حراس السوق
فوجئ المصريون، فى مارس ٢٠١٩ الماضى، بإعلان شركة نقل الركاب عبر التطبيقات الإلكترونية الأشهر فى العالم عن استحواذها على منافستها الأهم فى السوق المصرية، والتى تعمل بالمجال ذاته فى عدد من أسواق الشرق الأوسط مقابل ٣.١ مليار دولار.
ورغم ما تؤدى إليه عملية الشراء من خلق كيان مسيطر على سوق النقل عبر التطبيقات الإلكترونية فى مصر، حيث سيمتلك ما تتراوح نسبته بين ٩٠٪ و١٠٠٪ من عمليات السوق، إلا أن جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية، الذى تتلخص وظيفته أساسًا فى منع إتمام مثل هذه الصفقات، قام بالموافقة، فى نهاية ديسمبر الماضى، على الصفقة، مع إلزام الكيان الجديد بعدة ضوابط صارمة حتى يمنع الممارسات الاحتكارية المترتبة عليها.
كان المجتمع الاقتصادى قد أجمع على أن الصفقة غير اقتصادية، وأن انعكاساتها على السوق ستكون مؤذية، وأنه رغم ما تتسم ضوابط الجهاز به من جدية، إلا أن «السوق تبقى مُعرضة بشدة لكل مخاطر الاحتكار التام، التى فى حال كان الكيان الجديد قادرًا على التلاعب أو عدم الالتزام التام»، وهو ما يبدو أنه تحقق جزئيًا، حيث بات المستخدمون يشكون بشدة من قلة العروض الترويجية وأكواد الخصومات التى اعتادت الشركتان غمر هواتف مُستخدميهما بها قبل عملية الاستحواذ، وهو وإن كان أمرًا يحتاج دراسة متعمقة لتأكيده، إلا أن ما يمكن تأكيده أن السوق باتت شبه مغلقة على الكيان الجديد، مع وجود بضع شركات أخرى بالكاد قادرة على المنافسة.
صندوق النقد الدولى من جانبه وفى مراجعته الخامسة للاقتصاد المصرى فى ظل برنامج الإصلاح الاقتصادى، وقبل إتمام الصفقة السابقة بأكثر من شهر، قد أشار إلى أن قانون جهاز حماية المنافسة الصادر برقم ٣ لسنة ٢٠٠٥ يعوق الجهاز عن ممارسة عمله بكفاءة، وأن تعديله يأتى كواحد من بين أهم الإصلاحات الإطارية المطلوبة لدفع عجلة النمو الاقتصادى، وتشجيع الاستثمار الأجنبى المباشر، خاصة أن أرقام الأداء التى ينشرها الجهاز فى تقاريره الدورية تبدو «منخفضة نسبيًا» بالمقارنة مع انتشار الاحتكارات فى السوق المصرية.
ما كان يقصده الصندوق، فى تقاريره، هو ضعف أجهزة ضبط وتنظيم السوق فى مصر، حيث عمدت الإدارات السابقة إلى الإمعان فى تحرير السوق واتباع قواعد الرأسمالية فى إداراتها، لكنها أغفلت حُراس السوق، وهم أجهزة رقابة وضبط قوية قادرة على العقاب والتغريم، لمن يُسىء استغلال الحرية، كما يحدث فى كل الأنظمة الرأسمالية فى العالم، ومن بين أهم هذه الأجهزة فى مصر جهازا حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية وحماية المستهلك، اللذان ولدا عاجزين عن عمد، وليس أدل على ذلك من الحالة محل الحديث.
العجز الواضح لجهاز حماية المنافسة ينبع أساسًا من قانونه، والذى تنص المادة ١٩ منه على أن «يلتزم أى شخص أو كيان يتجاوز رقم أعماله السنوى ١٠٠ مليون جنيه مصرى بإخطار الجهاز بأى عمليات للاندماج والاستحواذ يقوم بها خلال ٣٠ يومًا من التاريخ المحدد لدخول عملية الاندماج أو الاستحواذ حيز التنفيذ»، بما يعنى أنه غير قادر على ممارسة الرقابة السابقة على هذه الصفقات، وغير قادر على التصدى ذاتيًا لإتمامها، حتى إن تبين له قطعيًا إضرارها بالسوق وبالمنافسة، لكن يتيح له ذلك عبر مخاطبة جهات الاختصاص، التى لا يوجد إلزام قانونى عليها بالموافقة على طلبه. كل ما كان يُتيحه القانون هو مجرد إخطار الجهاز، دونما استلزام موافقته أو حتى اعتبار مُعارضته العملية.
فى ٢٥ نوفمبر من ٢٠٢٠ تحرك مجلس الوزراء ليعدل الوضع، ليوافق على تعديل قانون الجهاز بما يكسر قيده، ويحول عجزه إلى قوة مفرطة، تعزز سيطرته فيما يخص عمليات الدمج والاستحواذ، حيث وافق مجلس الوزراء فى اجتماعه رقم ١١٩ لعام ٢٠٢٠ على مشروع قرار رئيس مجلس الوزراء، بشأن مشروع قانون بتعديل بعض أحكام قانون رقم ٣ لسنة ٢٠٠٥ بإصدار قانون حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية. والذى أخضع عمليات الدمج والاستحواذ «التركزات الاقتصادية» لرقابة جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية، وأوجب على الأطراف إخطار الجهاز بها قبل إبرام العقد للحصول على موافقته المسبقة، وذلك وفق عدد من المحددات.
ذات النهج ظهر مجددًا، أمس، عندما أعلن جهاز حماية المستهلك عن تطبيق غرامة تصل إلى ٢ مليون جنيه على تجار السيارات الذين يضيفون ما يسمى «الأوفر برايس»، أو مبلغ من المال على أسعار السيارات المعلنة من جانب الوكلاء، استغلالًا لبطء عملية التسليم المباشر من جانب الوكلاء، والتى قد تستغرق بضعة أشهر من وقت دفع ثمن السيارة، القرار كان واضحًا، حتى إنه تضمن شكل الملصق الذى سيكون على الوكلاء لصقه على سياراتهم، متضمنًا السعر والمواصفات، الأمر الذى يقلل هامش رفع السعر بشكل كبير.
الخطوات التى يتخذها حُراس السوق مؤخرًا، والدعم الحكومى السياسى والإدارى لها، توحى بأننا أمام مرحلة جديدة، يتكامل فيها شكل السوق الرأسمالية فى مصر، تحريرًا للأسعار، حرية فى الممارسات التجارية، وحماية مطلقة للمنافسة من الانتهاك، وللمستهلكين من الاستغلال.