الحبيب السالمي: «الاشتياق إلى الجارة» الأقرب لقلبي.. وسعيد بتراجع الإسلام السياسي في تونس (حوار)
لم تكتفِ رواية «الاشتياق إلى الجارة» للكاتب التونسي الحبيب السالمي «1951»، بالوصول إلى القائمة القصيرة من الجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر»، بل أتبعت ذلك بحصد جائزة «كتارا» فرع الرواية المنشورة، لتكون بذلك أكثر روايات الكاتب التونسي حصولًا على التكريمات والجوائز.
وُلِد السالمي في القيروان بتونس وتلقى تعليمه هناك، قبل أن يهاجر إلى باريس ويعمل في التدريس، وربما جاءت إقامة السالمي في فرنسا لتجعل من موضوعات مثل «الهجرة والاغتراب» محورًا مهمًا في الكثير من أعماله، بتنويعات مختلفة وزوايا متعددة.
أصدر صاحب «روائح ماري كلير» 11 رواية، ومجموعتين قصصيتين، بدأها برواية «جبل العنز» في 1988، وكانت «الاشتياق إلى الجارة» أحدث مشروعاته حيث صدرت عن دار الآداب اللبنانية في 2019.
عن الكتابة وأسئلتها، أجرت «الدستور» هذا الحوار مع الحبيب السالمي:
هل تتفق معي أن رواية «الاشتياق إلى الجارة» قطعة متمايزة ومختلفة عن باقي رواياتك؟
ـ نعم.. لكن لا بد من أن أشير إلى أن «الاشتياق إلى الجارة» تندرج ضمن مشروعي الروائي العام رغم اختلافها عما سبقها من روايات، بعض النقاد الذين أعجبوا بالرواية أدرجوها ضمن ما يسمّى بالرواية المينيمالية، وهي نوع من من الراوية رائجة في الغرب، ولها روادها الكبار مثل بيكت ومارغريت دوراس وباتريك موديانو وألبير كامو في بعض أعماله خاصّة في «الغريب» التي تكاد تقوم على حدث واحد وهو قتل العربي.
وتعتمد هذه الرواية بالأساس على التقشف سواء في الأحداث أو في اللغة، لا أدري إن كان هذا صحيحا، كل ما أعرفه هو أن الرواية التي تناسب مزاجي وأطمح إلى كتابتها ليست ليس مجرّد حكاية، بل هي اشتغال على حكاية وتأمّل فيـها وحفر في داخلها.
أي أن جزءا مهمّا منها لا يتطوّر على مستوى أفقي وإنما على مستوى عمودي، ويمكن أن نسمّيها أيضا رواية الداخل لأن ما يجول في نفسيات الشخصيات.
وفي ذهنياتها من أفكار وتصوّرات وما ينتابها من أحاسيس وانطباعات وما يخامرها من تساؤلات حول الكثير من مسائل الحياة، كالحب والموت والصداقة أساسي جدا.
الرواية كما أفهمها هي أيضا أداة معرفة، ولكن ليس بمعنى أنها تتضمّن معلومات تاريخية وفلسفية نستقيها من خارج الرواية ونحشوها بها كما يعتقد البعض وإنما بمعنى أنها تحرّض على السؤال، وتحتوي على التماعات ولقى وكشوفات تضيء الذات البشرية في ثراها وتناقضاتها، وبالتالي تساعدنا على فهم أنفسنا وعلى العالم المحيط بنا.
وأودّ أن أشير هنا إلى أن كتابة هذا النوع من الرواية هو تحدّ حقيقي بالنسبة إليّ، وخلافا لما يمكن أن يعتقد البعض أرى أنها أصعب من الرواية المليئة بالأحداث إذ ليس من السهل أن تنجح في خلق عالم متكامل ثري يشد القارئ من خلال بضعة أحداث.
هل يصح لنا القول إن كمال عاشور وزهرة رغم واقعيتهما وانتشار أمثالهما في مجتمع المهاجرين العرب يمثلان بالمثل رموزا وأفكارا؟
ـ لم أحاول أن أجعل من الشخصيتين الرئيسيتين في الرواية كمال عاشور و زهرة رمزا لأي شيء، كل ما سعيت إليه هو أن أقارب عالم كل واحد منهما بأقصى ما يمكن من الدقة اعتمادا على معرفتي بأوساط المغتربين التونسيين والعرب عمومًا.
إنهما نمطان مختلفان للاغتراب، وهما شائعان جدا في فرنسا وأوروبا عموما، أعرف شخصيا العديد من الأساتذة مثل كمال عاشور، كما أن علاقتي بالوسط الذي تنتمي إليه زهرة ليس غريبا عني، كثيرا ما أتردّد على حيّ بلفيل الذي يتواجد فيه العرب بكثرة فأنا أحبّ التجوّل فيه، وهو ليس بعيدا عن الحي الذي أقيم فيه، هناك نساء كثيرا مثلها يعملن خادمات في بيوت الفرنسيين، وفي السنوات الأخيرة صرن يقمن برعاية المسنين الذين يعيشون في عزلة بحكم التحوّلات التي شهدتها الأسرة الأوروبية.
ـ هل تنبع الحكمة ـ بشكل عام ـ من البساطـــة، بساطة زهرة مثلا؟ أما أنها تنبع من العلم المتعمق والإلمام بالمعارف كما في حالة كمال عاشور؟
ـ تنبع من الاثنين، كمال عاشور وزهرة متكاملان، كلاهما يجد في الآخر شيئا ينقصه ويحتاج إليه، لهذا السبب نشأت بينهما صداقة وانخرطا في لعبة إغواء تحولت إلى حب من جهة كمال عاشور.
زهرة منبهرة بثقافة كمال، وقد طلبت منه أن يعلمها اللغة العربية التي تجهلها، وهي تعوّل عليه كثيرا لقراءة رواية «عرس الزين» التي أبدت رغبة شديدة في قراءتها منذ أن أعجبت بشكلها وغلافها، كمال في حاجة إلى صداقة امرأة عربية ذات تجربة ثرية في الحياة وعلى احتكاك دائم بأوساط العرب، لقد مكّنته بذكائها الفطري من أن يعيد النظر في مسائل عديدة في حياته ومن أن يطرح أسئلة ما كانت لتخطر بباله هو المثقف المندمج تماما في مجتمعه الجديد.
ـ ذكرت في أحد حواراتك أن الكثير من الروائيين العرب ينجرفون مع اللغة بحيث يذهــبون معها إلى مناطق أبعد مما تقتضيه نصوصهم.. هلاّ فصّلت وجه ة نظرك بخصـــوص مسألة «دقة اللغة» و«جمالية تقشف اللغة» مقابل «جمالية اللغة الشعرية»
ـ أنت تثير بسؤالك هذا مسألتين منفصلتين تشغلان ذهني كروائي منذ فترة طويلة، المسألة الأولى هي دقة اللغة، والثانية هي «شعرية» الرواية.
في النقد الأوروبي يتحدثون كثيرا عن دقّة اللغة، ولا يقصدون بذلك النحو والصرف وإنما تطابق المفردة المختارة مع ما يريد الكاتب قوله والتي تنسجم مع سياق السرد، لاحظت أن النقد العربي قد غيّب هذه المسألة تماما.
أرى أن هذه المسألة أساسية جدًا، هناك فوضى في اللغة، وعندما تكون هناك فوضى يصبح الذهن مشوشا والرؤية غير واضحة، اللغة شأن مهم جدا، وهي ليست مجرد أداة تعبير وإنما هي الفكر، إنها الطريقة التي ننظم بها علاقتنا بالعالم، ولهذا أحرص على أن يكون هناك تقشف في لغتي لكي أقول بالضبط ما أريد قوله.
اللغة العربية لغة فاتنة ومغرية. فإذا استسلمنا لها كثيرا حملتنا إلى ما لا نرغب في الذهاب إليه، وهذا التقشف له جماليته، و يجب على الأذن العربية التي تميل إلى الطرب السهل والسريع أن تتعود عليه.
أما بخصوص «شعرية» الرواية فأنا أميّز بين شعرية القصيدة وشعرية الرواية، إذا كانت شعرية القصيدة تنبع في جزء كبير منها من تراكم الاستعارات والتشبيهات وخلخلة تركيب الجملة كما يتجلى ذلك في القصيدة الغنائية فإن شعرية الرواية كما أفهمها تأتي من المناخ العام للرواية الذي يستطيع الروائي أن يشيّده من خلال الإيقاع الداخلي للسرد وحركته وتصادم المواقف والمشاهد.
ـ فازت «الاشتياق إلى الجارة» مؤخرًا بجائزة كتارا ومن قبلها وصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة البوكر.. كيف ترى هذا الاحتفاء بالرواية؟ وهل يجعلها هذا ـ بما أنها أكثر أعمالك حصولا على تكريمات النص الأفضل في مشروعك السردي ـ على الأقل من وجهة نظر النقاد؟
ـ أحترم آراء النقاد، و لكن لا أظن أن «الاشتياق إلى الجارة» هي النص الأفضل في مشروعي السردي، وعلى أي حال أنا لا أؤمن بأن هناك نصا أفضل بين كل النصـوص التي كتبتها إذ على أي أساس يمكننا أن نطلق هذا الحكم؟ كل نص له ما يميزه.
لكن يمكنني أن أقول إن هذه الرواية أقرب إلى نفسي من الروايات الأخرى مثلا لأنها كتبت في ظروف عشت فيها تجربة تركت فيّ أثرا عميقا أو لأنها تتناول جزءا من حياتي أعتبره مهما، نجاح رواية ما لا يعني إطلاقا أنها الأفضل، لأن هذا النجاح ليس مرتبطا أحيانا بالنص في حد ذاته وإنما بالطريقة التي استقبل بها، أغلب الكتاب الكبار يقولون إن أعمالهم التي لاقت إقبالا كبيرا من قبل النقاد والقراء ليست بالضرورة هي الأهم، والأمثلة على ذلك كثيرة كما تعرف.
ـ ستترجم الرواية إلى الفرنسية والبرتغالية والإيطالية.. ماذا يمثل لك وصول أعمالك للقارئ الأوروبي؟ وكيف ترى تيار ترجمة الآداب العربية على اللغات المختلفة لاسيما الأوروبية؟ ما الذي ينقص هذا المضمار ليتحول إلى مشروع مؤسسي ذي منهج؟
ـ من المفرح أن تصل نصوص الكاتب إلى القارئ الأوروبي، والأجمل هو أن ألتقي هذا القارئ في الندوات والملتقيات التي أدعى إليها، وأستمع إلى رأيه في ما أكتب، وقد حدث هذا عدة مرات وفي عدة بلدان مثل ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا، وعموما فإن أراءهم مفيدة لأنها تنبع من قراءتهم لهذه الروايات، وفي الأعوام الأخيرة بدأت نصوصي تصل إلى قراء من نوع آخر.
وأشير هنا إلى أن روايتي «روائح ماري كلير»، قد صدرت مؤخرا في ترجمة تركية عن دار تركية مشهورة «إليتيسم» في سلسلة نشرت فيها روايات للبرازيلي جورج أمادو والفرنسي لوكليزيو والنمساوية الفريدة ايلينك، كما أن روايتي «نساء البساتين» قد ترجمت إلى لغة في الهند اسمها المييالامانية.
وفيما يتعلق بالنصف الثاني من سؤالك أعتقد أن ترجمة الآداب العربية إلى اللغات الأوروبية بطيئة، في فرنسا الوضع أفضل مما هو في باقي بلدان أوروبا.
الأسباب كثيرة ويتداخل فيها الثقافي بالسياسي بالديني، صورتنا في أوروبا قاتمة، نحن بالنسبة للكثير من القراء المحتملين «القارئ مهم جدا في أوروبا فهو الذي يجعل الكتاب المترجم رائجا»، شعوب غير قادرة على إنتاج نصوص عظيمة، نحن نكاد نكون مادة دائمة لأخبار العنف والإرهاب وقمع المرأة في نشرات الأخبار، طبعا هناك استثناءات، لكن هذه الاستثناءات تؤكّد القاعدة كما يقول الفرنسيون.
ـ على الرغم من سرعة وتيرة الحياة في هذا القرن وكونه زمن «التغريدات» المختصرة.. يبدو أن الحبيب السالمي هجر القصة القصيرة، أو ربما استعاض عنها بكتابة الروايات القصيرة؟ هل هناك عودة لكتابة القصة القصيرة؟
ـ صحيح أن رواياتي ليست طويلة جدا بسبب التقشّف ودقّة اللغة اللذين تحدثت عنهما منذ حين. لكنها ليست قصيرة، باستثناء «جبل العنز»، روايتي الأولى فإن كل رواياتي تقع بين مئتين ومئتين وخمسين صفحة.
أما بخصوص القصة القصيرة فأنا لا أزال وفيّا للقصة القصيرة، وحاليا أفكرّ في نشر مجموعة قصصية ثالثة، وستتضمّن قصصا نشر بعضها في مجلة «الكرمل» عندما كان يشرف عليها محمود درويش و سليم بركات، ثم من يدري ربّما أعود إلى كتابة القصة القصيرة.
- كيف ترى المشهد الروائي العربي والتيارات السائدة أو التجليات الأبرز في الرواية العربية مؤخرًا؟
ـ هناك حركة جميلة في كتابة الرواية ونشرها، ويحدث هذا في كل الأجيال وفي كل البلدان العربية خلافا لما كان الأمر عليه قبل ثلاثة عقود، هذا لا يمكن إلا أن يكون مثريا للرواية إذ تتعدد الأساليب والمقاربات وتتنوع المناخات، هناك من يتحدث عن استسهال في كتابة الرواية، ويشير إلى أن هناك روايات كثيرة غير مهمة، لكن الأمر كان دائما هكذا في بلداننا العربية وحتى في الغرب.
النصوص الجيدة هي دائما قليلة، في فرنسا تنشر كل موسم أدبي حوالي ستمائة رواية، ولكن الكثير من هذه الروايات غير مهمة، وهذا لا يمنع من أن فرنسا تحتل الآن المرتبة الأولى في قائمة الكتاب الفائزين بجائزة نوبل الآداب، أنا من الذين يؤمنون بأن الكثرة تؤدي إلى الجودة.
ـ مؤخرا فاز الروائي التنزاني عبد الرزاق قرنح بجائزة نوبل للآداب؟.. هل يبق لك أن قرأت له؟ ومتى يفوز كاتب عربي بتلك الجائرة؟ ألا يوجد اسم عربي واحد مؤهل لها ويستحقها؟ وهل هي جائزة محايدة ومنصفة بالفعل أم أنها ـ كما يقول البعض مؤدلجة ولها حسابات بعيدة عن فنيات الكتابة؟
ـ سررت مثل الكثيرين بأن جائزة نوبل منحت هذا العام لكاتب إفريقي، وهذا يمنح الجائزة شيئا من المصداقية، للأسف لم أقرأ له، أما بخصوص حياد الجائزة أكتفي بالقول إن الحياد في كل شيء أمر نسبي.
هناك عرب يستحقون نوبل، لكن ليس كل من يستحق جائزة ينالها، لأنها لا تمنح إلا لكاتب واحد.
ـ يشهد العالم تطورات سريعة شرقا وغربا.. عادت طالبان لتحكم أفغانستان مجددا مقابل إجراءات رئاسية في تونس للحد من الحضور الإخوانجي في المشهد السياسي.. كيف تعلق على هذه الأحداث؟
ـ أتابع مثل الجميع ما يحدث في عالمنا العربي والإسلامي، لكن ما ألاحظه أنه في الوقت الذي تتراجع فيه حركات الإسلام السياسي في العالم العربي كما حدث في تونس والمغرب تعود هذه الحركات إلى الواجهة في العالم الإسلامي.
أنا سعيد بتراجع الإسلام السياسي وأتمنى أن يختفي تماما من عالمنا العربي، وأرجو أن يحدث هذا في وقت قريب جدا، لقد خسرنا الكثير مما حققناه بعد الاستقلال بسبب ظلامية هذا الإسلام السياسي و تخلفه، وعلى العرب الآن أن يفكروا جديّا في الفصل بين الدين والدولة.
ليس هناك ما هو أخطر من الزج بالدين في السياسة خاصة في بلدان مثل بلداننا.