النخبة والناس
منذ أمس الأول تدور نقاشات حول العنف فى المجتمع المصرى، سبب النقاش هو الحادث البشع الذى وقع فى الإسماعيلية، من وجهة نظرى فإن العنف موجود فى كل المجتمعات، طبيعة لدى بعض البشر، تساعد عليه الظروف الاجتماعية، والاقتصادية أحيانًا.. لو لم يكن العنف طبيعة لما رأينا أفلام هيتشكوك مثلًا، ولا صورت السينما الأمريكية ما يدور فى أحياء الزنوج فى أمريكا، لم نكن أيضًا لنرى أفلامًا مثل «الأب الروحى» وغيرها التى تصور عنف العصابات الأمريكية، من وجهة نظرى أيضًا أن التعليقات على الحوادث الصادمة تتولى النفخ فيها كتائب الإخوان الإلكترونية، فضلًا عن طبيعة حالة التواصل الاجتماعى التى تفرض على مستخدمها أن ينعى شيئًا ما، أو يرثى لشىء ما، أو يعترض على شىء ما.. تبدو حادثة مثل هذه مناسبة مثالية للحديث عن الانهيار الذى حدث، والخراب الذى حل، والسواد الذى يحاوطنا، والدمار الذى ينتظرنا.. إلى آخر هذه «السوداويات».. وبغض النظر عن المبالغات غير النزيهة، أو ذات الغرض السياسى، فإننى أعترف أن الحادث مقلق لحد ما.. وبغض النظر عن التفاصيل، وما إذا كان حادث قتل من أجل الشرف، أو حالة جنون مفاجئ انتابت مدمن مخدرات تخليقية خطيرة، فإن الحادث يلفت النظر إلى أحوال الجزء الغاطس من المجتمع، وفقًا للإحصاءات فإن نسبة الأمية فى مصر تصل إلى ٤٠٪ من المصريين، النسبة تزيد قليلًا عن نسبة الفقر فى مصر، الاستنتاج الطبيعى أن الأقل تعليمًا هم الأكثر فقرًا، فيما عدا استثناءات بسيطة، نحن نتحدث عن ملايين المصريين أهملتهم أنظمة الحكم المتعاقبة بدرجات متفاوتة، فى السنوات التى سبقت يناير، عانت الدولة المصرية من وهن واضح، انسحبت من أدوارها فى تعليم وتوعية الناس، وتركت الساحة خالية للإخوان ولحلفائهم، حتى هؤلاء رغم تمويلهم الضخم وقدراتهم لم يكونوا قادرين على التأثير فى كل هذه الملايين، اكتفوا بتجنيد من استطاعوا، وكذلك فعل غيرهم من حلفائهم.. الباقون من هذه الكتلة تركوا لأنفسهم.. أناس يسكنون العشوائيات، ولا ينالون أى نصيب من الثروة الوطنية ولا من رعاية الدولة، يحاصرهم الفقر، والجهل، والمرض، وكأن الحياة فى مصر قد عادت قرنين إلى الوراء، تمثلت مساهمتهم فى أحداث يناير فى سرقة المولات والمحلات التجارية، ولولا اليد القوية والرادعة لذهبوا فى الشوط إلى آخره.. سياسات الدولة المصرية فى عهد الرئيس السيسى تجاه هذه الفئات تغيرت مئة وثمانين درجة، تم إعطاء الأولوية لسياسات العدل الاجتماعى، وإزالة العشوائيات، وتم إطلاق مشروع حياة كريمة لأهل الريف والمدن أيضًا، من أعظم المشروعات المرافقة لحياة كريمة كان مشروع «التوعية» والمقصود هنا ليس التوعية السياسية فقط، ولكن توعية الناس بحياتهم، وزارة التضامن الاجتماعى خصصت مئات العاملين لتوعية هؤلاء البسطاء وإنارة عقولهم، الفكرة أن يجد الناس من يتحدث إليهم بعد عقود من التجاهل، والإهمال، يتحدث معهم عن تربية الأبناء، الصحة، النظافة، ضرر المخدرات.. إلخ، الفكرة أننى لا أتخيل أن هذا دور وزارة التضامن فقط رغم عظمة ما تقوم به، هذا مشروع لا بد أن تشارك فيه النخبة المصرية وعلى رأسها المثقفون، هناك دور أكيد لجمعيات المجتمع المدنى، والمهتمين بالعمل السياسى، الفكرة هنا أن الطاقات المهدرة، أو المكتفية بالرفض، أو التى كانت توجه جهودها فى اتجاه الهدم، عليها أن تعيد التفكير، إذا كانت تريد فعلًا مصلحة هذا البلد.. الذين يتكلمون عن الخراب الذى وصل له المجتمع، عليهم أن يمدوا أيديهم لإصلاح هذا الخراب، من خلال رؤية فكرية تتبنى الإصلاح بدلًا من الهدم، المشكلة أن بعض قطاعات النخبة يفكر بانتهازية شخصية، بعضهم يرى أن دور المعارض يجلب له مكاسب أكبر، بعضهم يرى أن خدمة مصالح المستثمرين تدر عليه مزيدًا من النفع، بعضهم يرى أن خدمة هذا البلد أو ذاك أفضل له من عدة نواح، لذلك لن يملك أحد شجاعة أن يكون إصلاحيًا، أو أن يمد يده لخدمة مجتمعه، رغم أن الظرف التاريخى موات، هناك سلطة وطنية ونزيهة ولديها مشروع وطنى، لكن الحسابات الصغيرة تعمى أعين الكثيرين، قديمًا قال الأبنودى «إذا مش نازلين للناس فبلاش» ربما كان يقصد التحام المثقف بالجماهير وقيادتها للثورة، لكن طريق الثورة أثبت فشله، والبديل هو طريق الإصلاح، لكن بعض مثقفينا يفضل التنظير وهو يجلس على البر، لكن الجلوس على البر لا يحمى من الغرق.. البعض يمكن أن يغرق فى انتهازيته أحيانًا.