من رثاء الذات
أحتاج إلى عمر ثان، أحتاج إلى معجزة كى أنساك، أحتاج أن أنساك، أن أفطم منك، أن أبتعد كثيرًا، قليلًا، أن أدور فى مدارى، لعلى حين أبتعد عنك يتكون لدىّ مدار، أنا الذى كنت دائمًا فى مدار الآخرين، ماذا أنا؟
لا شىء، بصمتى وجودى، صمتى، غيابى، حنينى، لا شىء، أحتاج أن أبعد كى أراك وأعرف تفاصيلك التى لفرط شغفى بك أنكرها، أحتاج أن أبعد كى أراك، أرى الوجه الآخر الذى لا أعرفه، أراك بعيون غير التى اعتادتك، اعتادت عيناى أن تغرق فى الدموع لمرآك، أحتاج عينين لا يحجبهما حنين دائم إليك، أحتاج إلى أصابع لم تلمسك، إلى شفاه لا تختلج لك، أحتاج إلى رغبة لا توقظها خصلة من شعرك، أو ميلاد غمازتين فى خدك.. أحتاج إلى عمر جديد، ولكن ليس هناك وقت، لا، سأستسلم وآخذك بين ذراعى وسأنام وسأبتهل ألا تأتينى فى أحلامى، فاليقظة تكفينى، اليقظة كافية جدًا لاحتراقى.
يا حنونة.. سأقول أحبك وأغلق فمى، أطبق فمى، أتلبس صمتى، فأى كلام غير هذه العبارات، هرطقات، تبريرات، توهان، ترديدات، فروع، أحبك هذا هو الأصل، صليبى تجربتى، محنتى، جحيمى، فردوسى.. حنونة.. كنت أناديك.
هل أقول لك سرًا، أمى لم تكن تحبك، منذ سكنت قلبى، منذ صرت بوصلتى ومحبتك قدرى، لم تصرح لى أبدًا بذلك، لكننى أعرف وجهها حين تبتسم لمن لا تحب، حين تجاهد روحها لترد الضغينة، حين تجبر نفسها على المحبة، حين تستغفر مئات المرات لأن روحًا خلقها الرب لا تتوافق مع روحها، أرقب ابتسامتها التى تقوس خديها، أرى اضطرابها، ضميرها المعذب، تفتقد سلام روحها وتضطرب حين أحكى عن لقائنا، وحين تراك معى تعوض ذنبها الذى تحمله تجاهك، إشارات الخطر كانت كثيرة.
- نادرة زيارات أمى إلينا.
- سأزورك حين تنجب.
- هل تريد أمى أن أنجب؟
لا أريد أن أسمع، لا أريد أن أرى، أريد أن أفقد الذاكرة، أن أتوه، أريد أن أجرب خفة، الذين لا ينتظرون شيئًا، الذين لا يثقون إلا فى جراحهم، الذين لا يملكون ترابًا يغويهم فيبذلون الروح ثم لا يجدون شيئًا.
هذا الوجه، هذا الصوت، هذا الغضب يحررنى من كل الخوف، من كل القلق، من كل المشاعر التى حملتها لك، أوثقت نفسى بك، رغمًا عنى، المحبة أرغمتنى، المحبة أغوتنى، ووعدتنى بانسياح الروح فى الروح، الطبيعة خدعتنى، الحكايات خدرتنى.
البنت التى لم تحب أمها وأطلقت عليها السيدة التى تسكن الغرفة المجاورة كانت فقط فى قصص الرعب، فى الخرافات، لم أكن أعرف أنها يمكن أن تكون البنت التى تسكن روحى وتحتل قلبى.
تتخبطين لا تعرفين كيف تتصرفين، ما هو الصواب وما هو الخطأ؟
كان وجودك ملتهبًا، صاخبًا، مقلقًا، كنت أتوق إلى اضطرابه بدلًا من سكون عالمى، كنت أعتقد أنها الحيوية المتدفقة، النار الباعثة للحركة والحياة، مع عمق اقترابى وطول التدانى أصيبت بالدوار من الحركات العشوائية، من الفوضى، فوضى الأفعال رغم حبك الشديد للنظام والترتيب ولكنك ترتبين الأشياء، الأشياء الجامدة تسيطرين على ما هو مسيطر عليه أصلًا، مجرد رغبة فى السيطرة والتحكم، فى حين لا تبالين بقراراتك المتضاربة واختياراتك العشوائية فى الدراسة، الحب، الطعام، الملابس، نظامك، ترتيبك الدقيق المموه يخفى سرًا، حقيبة يدك، مفاتيح دولابك التى لا تضيع، تنظيم محفظة النقود.
قال: طوبى للمتراحمين، طوبى للمصلحين بين الناس، طوبى للمتواضعين فى الدنيا، طوبى للمساكين، طوبى للمحزونين، طوبى للمسبوبين من أجل الطهارة، فإن لهم ملكوت السماء، طوباكم إذا حسدتم وشتمتم وقيل فيكم كل كلمة قبيحة كاذبة حينئذ فافرحوا وابتهجوا فإن أجركم قد كثر فى السماء.. لكنه لم يقل طوبى للمخدوعين، هل قال طوبى للمغفلين؟
أيها المصلوب لماذا لا تتركنى؟ دائمًا صورتك تطاردنى، لا تريد أن تخرج من روحى، زهدك، مقاومتك لكل المغريات، الروح التى نفخت منها، الأثيرية والتسامى، اللا تعلق بشىء، لهم الحق أن يفتنوا بك، أن يظنوك إلهًا، أنت أحييت الموتى، أبرأت المرضى، أنت أشعلت الروح.
لكنك تقول كلامًا ساذجًا لا ينم عن تجربة، أنت لست للحياة، كل أتباعك لم يلتزموا بما قلت، صلوا من قطعكم، واعطوا من منعكم، وأحسنوا إلى من أساء إليكم، وسلموا على من سبكم، وأنصفوا من خاصمكم، واعفوا عمن ظلمكم، وسلموا على من أعرض عنكم، اسمعوا قولى واحفظوا وصيتى وارعوا عهدى كيما تكونوا علماء فقهاء.. لكننا لم نصبح شيئًا أكثر من تائهين ومضللين.