المفتي: أينما وجِد الإسلام وجدت الرفاهية والرخاء والرحمة
أعرب الدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، عن امتنانه لوجوده وسط شعب البوسنة والهرسك الشقيق، مشيرًا إلى اعتزاز المصريين شديدَ الاعتزاز بصداقته وسعيه الدائم إلى توثيق عرى التعاون معه قيادةً وشعبًا.
جاء ذلك خلال إلقائه محاضرة في كلية الدراسات الإسلامية بسراييفو، ضمن زيارته الرسمية للبوسنة والهرسك، حيث حرص على نقل التحية للحضور من أرض الكنانة وبلد الأزهر الشريف؛ مصر… كعبة العلم ومنارة المسلمين، قائلًا: "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين".
كما تقدم بالشكر للمشيخة الإسلامية في البوسنة والهرسك، وللشيخ حسين كافازوفيتش رئيس العلماء والمفتي العام على هذه الدعوة الكريمة، مقدمًا بين يديه مزيد التقدير والعرفان لجامعة سراييفو وكلية الدراسات الإسلامية بها على وجه الخصوص؛ ذلك الصرح الأكاديمي العريق الذي يُعد من أهم المؤسسات التي تُعنى بالعلوم الإسلامية في أوربا.
وقال:"إننا ما زلنا في شهر ربيع الأول، شهر البركات والأنوار؛ الشهر الذي نحتفي فيه بمولد النبي الهادي صلى الله عليه وآله وسلم؛ خير الخلق وسيدهم، رحمة الله للناس أجمعين، مؤكدًا أن ميلاد الأنبياء هو ميلاد رحمةٍ وسلامٍ ومحبةٍ، وذكرى ميلادهم هي مناسبات سعيدة على البشرية نحتفل بها ونتذكر ما أرسلهم الله سبحانه وتعالى به من أخلاق وقيمٍ من أجل صلاح الناس".
وأضاف:"من هنا كان الاحتفال بذكرى مولده عليه السلام العطرة يمدنا بمزيد من الأمل والنور والبِشْرِ لِتَشُدَّ على أيدينا وسواعدنا، كي تتوحد كلمتنا وتنطلق مساعينا نحو البناء والعمران؛ رغبةً في استعادة الروح المُحبة للحياة والمقبلة عليها، فحق لنا إحياء ذكرى مولده في هذا الشهر الأنور بشتى أنواع الطاعات والقربات، وإشاعة مظاهر الرحمة من الفرح والسرور والإطعام والتهادي؛ فرحًا من أمته بمولده صلى الله عليه وسلم، ومحبةً منهم لما كان يحبه؛ عرفانًا بحسن فضائله وسردًا لجميل شمائله وتذكرةً بأخلاقه القويمة حتى تتعلق النفوس والعقول بحضرته الشريفة؛ فإن تعلُّق النفس به سبيلٌ إلى اتباعه، وباتباعه تصفو القلوب وتستقر النفوس".
وأشار المفتي: إلى أن “ما حلَّ بالعالم الآن من الوباء المعروف بفيروس كوفيد 19 المشتهر باسم كورونا هو مصابٌ جللٌ يهددُ واقعَ البشريةِ وأمنَها وسلامتها واستقرارها ومستقبلَها، ولا بد للخروجِ من هذه الأزمةِ أنْ نتكاتفَ جميعًا حكوماتٍ وشعوبًا ومؤسساتٍ على مستوى العالم حتى نتجاوزَ تداعيات هذه الأزمة بسلام”.
ولفت: إلى “أهمية دَورِ المؤسساتِ التعليمية والإفتائية، حيث يقعُ عليها عبءٌ كبيرٌ جدًّا في ترسيخِ ونشرِ القيمِ الإسلاميةِ العريقةِ في التراحمِ والتكافلِ والاهتمام بالجانبِ القِيميِّ والاجتماعيِّ على المستوى الإنسانيِّ وليس على المستوى الإسلاميِّ فقط”.
وأوضح أنَّ “الرسولَ الكريمَ صلى الله عليه وسلم أُرسلَ رحمةً للعالمين، بلْ ما أُرسلَ إلا رحمةً للعالمين، فنشرُ قيم التراحمِ والتكافلِ ومدِّ يد العَونِ والمساعدةِ في عالم ما بعد كورونا، هو وظيفةٌ أساسيةٌ من وظائفِ السادةِ العلماءِ والمفتين، وهذا تحقيقًا لقول الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)، وتحقيقًا لمضمون قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)”.
وشدد على أنَّ “التراحمَ قيمةٌ إنسانيةٌ وإسلاميةٌ عظيمةٌ، ففي الحديثِ المتفقِ عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من لا يَرحم لا يُرحم)، وروى الترمذي وأبو داود في سننيهما عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الرَّاحِمونَ يرحَمُهم الرَّحمنُ تبارَك وتعالى؛ ارحَموا مَن في الأرضِ يرحَمْكم مَن في السَّماءِ). وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله ﷺ يقول: جعل الله الرحمةَ مائةَ جزء، فأمسكَ عندهُ تسعةً وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق، حتى تَرفعَ الدابةُ حافرَها عن ولدِها خشيةَ أن تصيبَهُ)”.
وأضاف أنه “في اتباع شريعة الإسلام النجاةَ في الدنيا والآخرة، فكان من رحمة الله تعالى بخلقه ألا تكون الدعوة الإسلامية لفئة معينة بل هي عامة للبشر أجمعين، وسعى رسوله عليه الصلاة والسلام بصدقٍ وعزيمةٍ إلى بيانها لعموم الناس؛ فقام بالبيان خيرَ قيام، وأوصانا بسائر الأمم أن ندعو ونبيِّن لنكون عليهم شهداء، ويكون عليه السلامُ علينا شهيدًا. ورسالة الإسلام قد جاءت عالمية لم تتوقف عند حدود مكة أو العرب فقط، بل شملت العالم كله، تصديقًا لقول الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}”. وواصل "واستطاع الإسلام من خلال هذه العالمية استيعابَ الحضارات والأمم بما تحويه من ثقافات متنوِّعة وأديان متعدِّدة وأعراف مختلفة. وقد تأكد ذلك في آيات الذكر الحكيم؛ فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}، وقال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلنَّاسِ كَافَّةً".
ولفت: إلى أن "التاريخ الإسلامي سنرى أنه حيثما وجِد الإسلام والإيمان الحقيقي في وطن من الأوطان وجدت معه الرفاهيةُ والرخاء والرحمة في كل شئون البشر، ويتجلى هذا إذا قارنا الجزيرة العربية أو غرب إفريقيا أو إندونيسيا أو الهند قبل الإسلام وبعده، وحيثما دُرْتَ ببصرك، فستجد أن الإيمان قد أضفى على هذه الأمم مسحةً من الجمال والسماحة، وكل دولة كانت تحت الحكم الإسلامي مرت بما يسمى بالعصر الذهبي، ولا يدخل الإيمان قلبًا إلا زيَّنه، والشعب المؤمن لا يتقدم في مجتمع إلا وهو يُجمل هذا المجتمع، ونحن لا نعني بالجمال الثقافي منه كالفن والمعمار والموسيقى والشعر فقط، وإنما نتحدث عن السلوك والأخلاق؛ لذا فإن الإيمان الحقيقي هو أن تعيش وتدع الآخرين يعيشون كآدميين متحضرين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
وتابع:"لقد كان القصد من مبعثه هو تحسين السلوك الإنساني وتعزيز الخُلُق القويم، وقد كانت بعثته للناس كافةً وليس للعرب خاصة، وهو أسوتنا الحسنة، وعلينا أن نسعى حثيثًا لرخاء المجتمع الذي نعيش فيه، علينا أن نحسِّن أوضاعنا وقيمنا الأخلاقية داخلنا، ثم نعمم هذا الإصلاح الأخلاقي على أسرنا ومجتمعاتنا. وبناء عليه، يجب أن نساعد في إعادة تقويم البوصلة الأخلاقية، وفي وضع أجندة أخلاقية جديدة، وبهذا نتحقق من عالمية الإسلام؛ ذلك الأمر الذي يجب علينا أن نحافظ عليه. ولا يتم ذلك إلا بدعائم ينبغي بناؤها ونشرها؛ ولعله من أهمها الوسطية والتعايش والحوار مع الآخر".
وتطرق المفتي إلى الحديث عن الوسطية، مؤكدًا أنها معلم أصيل من معالم دين الإسلام، ومنهجٌ قويم دعا إليه وعمل به نبينا الأمين عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، بل لا نبالغ إذ نقول: إن الإسلام هو الوسطية والوسطية هي الإسلام، كما قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)، والأمة الوسط هي الأمة العدل التي حادت في منهجها العلمي والعملي عن الإفراط والتفريط، وعن التشدد والغلو وعن التحلل من ربقة ديننا الحنيف الهادي إلى الصراط المستقيم، فالإسلام والوسطية صنوان لا يفترقان، ولا يكون الإسلام في حقيقته السامية وجوهره الفريد ودعوته الخاتمة إلا وسطيًّا؛ لأن الله تعالى لم يختم الرسالات الإلهية ببعثة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم إلى العالمين إلا بذلك الدين الوسطي القيم، قال تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين)، وقال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
ودلَّل على ذلك ما ورد في مسند الإمام أحمد عن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بُعثت بالحنيفية السمحة). وواضح جلي لكل ذي عقل أريب، وفكر نجيب، ونظر مستقيم، وقلب سليم، ما بين معنى الوسطية والحنيفية من الارتباط والاتفاق والتناغم في الجوهر والحقيقة والمعنى؛ فما الحنيفية في حقيقتها وجوهرها إلا الميل عن كل انحراف يخالف دين الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقًا، وما الوسطية في حقيقتها وجوهرها إلا البعد عن الإفراط والتفريط معًا في ذلك كله، ولذلك لم نبالغ في قولنا: "الوسطية هي الإسلام، وإن كل من حاد عن هذا المنهج الرباني الشريف يبتعد عن حقيقة الإسلام السمحة وجوهره النقي بقدر ما حاد وانحرف وغيَّر وبدَّل".